تأخر الإعلان عن تشكيل الحكومة الفرنسية، التي أعقبت فوز إيمانويل ماكرون يوم السابع من مايو 2017، بأربع وعشرين ساعة عن الموعد المحدد لها سلفا، وهو تأخر بسيط، وغير ذي تأثير لافت، بالقياس إلى طبيعة السياق الذي تحكم في تشكيلها، والأفق الذي ينتظرها، أي الاقتراع التشريعي المقرر تنظيمه في أقل من شهر من الآن. ففي يوم الأربعاء 17 من هذا الشهر، أعلِن عن أسماء أعضاء الحكومة الذين سيشكلون فريق الرئيس للولاية الجارية (2017 ـ 2022(، والذين تمَّ انتقاؤُهم، دون شك، بعناية ودراسة فائقتين، وبشكل يستجيب لرؤية حركة “الجمهورية إلى الأمام”، وقائدها ماكرون، وبما يتوافق مع متطلبات السياق السياسي الفرنسي وتعقيداته. لذلك، حملت الحكومة الجديدة الكثير من الدلالات الجديرة بالتساؤل والتفكير، ولعل أول استنتاج عند قراءة خلفيات أعضائها، والاعتبارات المتحكمة في انتقائهم، يُشير إلى أنها شُكِّلَت على المَقاسِ، أي على أساس توازنات ومتطلبات الفوز بأغلبية مريحة للرئيس وفريقه في اقتراع شهر يونيو المقبل.
من العناصر اللاّفِتة في تشكيل الحكومة الفرنسية الجديدة، جمعها لكافة متناقضات المجال السياسي الفرنسي، من يمين ويسار ووسط، ومستقلين ممثلين للمجتمع المدني، وأنصار البيئة، وبهذا يكون ماكرون، بوصفه مهندسا رئيسا لهذه التركيبة الحكومية الجديدة، قد كرّسَ ممارسة سياسية جديدة لم تشهدها الجمهورية الخامسة منذ الإعلان عنها عام 1958، وهي ظاهرة وجود حكومة بدون لون سياسي محدد بعينه، فاليمين واليسار اللذان حكما فرنسا قُرابة ستة عقود لم يعد لهما وجود في القاموس السياسي الفرنسي، بل إن دهاء ماكرون وحركته، ومن يدعمه في ترتيب بيته الداخلي، تمكّن من إضعاف اليسار واليمين معا، وتعريضهما للاهتزاز، باستقطاب أسماء بارزة من داخلهما لتولي المسؤولية في الحكومة الجديدة، والأكثر من هذا استطاعت هذه الأخيرة استيعاب كل حساسيات اليمين، وإيجاد مواقع لرموزها في الحكومة المعلن عنها. صحيح أن “الجمهوريين” من اليمين استحوذوا على الحقائب الوزارية ذات الطبيعة الاقتصادية والمالية، وهي الأكثر أهمية وقوة في رؤية ماكرون لتطوير فرنسا واستعادة مكانتها. وصحيح، كذلك، أن حرصه على تكريس مبدأ “المناصفة” بين الرجال والنساء في تحمل المسؤولية في حكومته كان واضحاً ولا غُبار عليه، لكن، بالمقابل، جاءت المناصفة كمية غير نوعية، وهو ما يعني أن الحقائب المسندة إلى النساء في الحكومة الجديدة ليست من درجة القوة والتأثير التي لحقائب الرجال.
يُضاف إلى ما سلف بيانُه، انفتاح حكومة ماكرون على شخصيات سياسية من العيار القديم في المشهد الحزبي الفرنسي، من قبيل Bayrou، وزير العدل، وJean Yves le Drion، الوزير المكلف بالملف الأوروبي، و Gerard Collombوزير الداخلية، أما القصد من ذلك، فيتجلى في عدم القطع نهائيا مع الماضي وضمان الاستمرارية في حدها الأدنى، ثم الوفاء لمن كان إلى جانب ماكرون، وعدم التنكر لدعمه المبكر للمرشح الرئاسي. علاوة على ذلك، ضمت الحكومة الفرنسية الجديدة كفاءات ذات سمعة كبيرة، كما هو حال وزيرة الصحة، ووزيرة الثقافة، التي تدير ووزيرة العمل أو الشغل Muriel Penicaud، غير المعروفة بما يكفي، لكن ذات التجربة في القطاعات الاجتماعية، والمستشارة السابقة لوزيرة الشغل Martine Aubry.
هل يستطيع الرئيس الفرنسي المنتخب، إلى جانب وزيره الأول، إدارة البلاد بحكومة من هذه التركيبة السياسية؟ لعل هذا هو السؤال الكبير الذي ما انفكت تطرحه الطبقة السياسية في فرنسا. فالرئيس ماكرون وحركته ومن يخطط معه، انفتحوا على اليمين واليسار والمجتمع المدني، وجعلوا من هذه الأذرع الثلاثة قاعدة الحكومة الجديدة، مكسرين بذلك تقاليد الجمهورية الخامسة، أي الحكم بالتعاقب بين قوتين: اليمين واليسار، وقبل ذلك أضعفوا اليمين واليسار معا باختراقه من الداخل، واستمالة أسماء ورموز للانضمام إلى الفريق الحكومي لضمان الفوز في الاقتراع التشريعي القادم. فهل ستنجح خطة ماكرون والظفر بأغلبية مريحة في البرلمان المقبل؟ وإذا تحقق ذلك، هل في مكن هذه الخلطة الحكومية الجديدة الذهاب بعيدا في تحقيق الإصلاحات الكبرى التي وعدت بها حركة “الجمهورية إلى الأمام”؟ إنها أسئلة جديرة بالطرح، لكن صعبة التكهن بأجوبة قطعية عنها.