لوهافر.. باريس وروح المقاولة

15 يونيو 2017 - 13:06

نحتفل هذه الأيام بالذكرى الـ500 لقرار “فرانسوا الأول” بإنشاء ميناء “لوهافر” (شمال غرب فرنسا). في ذلك العهد، لم يكن مرفأ “روان”، الذي صار واحدا من المراكز الأوروبية لتجارة النسيج، واسعا بما يكفي لاستيعاب الحركة المتنامية للسفن، ولتنظيم عملية غزو العالم الجديد، وهو الأمر الذي لم يكن هذا الملك يريد تركه لهيمنة الإسبان.
ولكن، ومنذ ذلك الحين، لم يف هذا الميناء بالغرض الذي أنشئ من أجله. وهذه مناسبة للتفكير في هذه الفرصة الضائعة، من بين أخرى كثيرة، والعمل على جعل فرنسا بلدا بحريا كبيرا.
بإنشاء ذلك الميناء، كان من الممكن، أسوة بكل البلدان الكبيرة الأخرى، جعل المدينة الأهم بالبلاد. ولكن ملوك فرنسا لم يقوموا بأي شيء كفيل بجعله حاضرة كبيرة (باستثناء بعض الامتيازات الضريبية)، فبالأحرى تحويله إلى عاصمة. وفضلوا مواصلة العيش في القصور المشيدة على ضفاف نهر “لوار” (الأطول بفرنسا)، واحتفظوا بباريس عاصمة لفرنسا. بينما، في البلدان الأخرى، كانت السلطة في البندقية، جنوة (إيطاليا)، أنفرس (بلجيكا حاليا)، أمستردام، لندن، نيويورك، شنغاي.. وكلها موانئ.
طيلة هذه القرون، وإلى غاية يومنا هذا، لم نوفر لـ”لوهافر” الوسائل الكفيلة بتنميته، ولا لأي ميناء فرنسي آخر. وقد فشلت تباعا كل محاولات “ريشليو” و”مازاران” و”لويس 15″ و”نابليون الأول” و”لويس 18″ و”نابليون الثالث”. ورغم المجهودات الحديثة والمحمودة للمنتخبين المحليين والدولة، فإن ميناء “لوهافر” لا يحتل اليوم سوى المرتبة 68 عالميا، بل ولا أثر لـ”مارسليا” في الـ100 ميناء الأولى بالعالم. بهذه الوتيرة لن تكون باريس قريبا سوى ضاحية لـ”روتردام”، الميناء الأول بالقارة الأوروبية. إن هذا الخيار، الذي اتخذ في 1517، وتم تأكيده في غالب الأحيان منذ ذلك التاريخ، كان مصيريا. وهو خيار قاتل. إلا إذا تحركنا بسرعة.
بطبيعة الحال، لا مجال لنقل العاصمة خارج باريس، إحدى أجمل مدن العالم، ولكن يمكن تجسيد ما تم الإعلان عنه قبل قرنيين كاملين: جمع المجال الترابي الممتد من باريس إلى لوهافر في وحدة إدارية واحدة، مع منحها الإمكانات الكافية والكفيلة بتوسيع القدرة الاستيعابية للميناء، وتقوية روابطه مع العاصمة ومع باقي مناطق البلاد، وخصوصا مع مدينة “ليل”، حتى لا تتحول جهة “شمال فرنسا” (hauts de france) إلى مجرد ضاحية لمنطقة “فلاندر” البلجيكية.
إن الأمر مستعجل جدا. فبعد عقد أو عقدين من الزمن، ونظرا للتغيير المناخي، ستسلك البواخر المقبلة من آسيا طريقا جديدا سيرى النور في القطب الشمالي باسم “الطريق الشمالي الغربي”. هذا لن يكون في صالح لوهافر بتاتا، بل سيصب، أساسا، في مصلحة موانئ أوروبا الشمالية.
إن التحول المطلوب أعمق من هذا. فالهوس القروي واللابحري لفرنسا يغذي التردد أمام التغيير، أمام الابتكار، أمام روح المغامرة، وروح المقاولة. وهذا ما يفسر تفضيل بلادنا للثابت، للتكرار، للماضي، للتجذر، للريع، على حساب الربح.. تفضيلها للمورد المؤكد على حساب المخاطرة من أجل تحقيق الثروة.
والحال أن الأرض ليست بالضرورة عدوا للبحر. وليس من المفترض إعادة النظر في أهمية الفلاحة الأصيلة، المتحررة من الطابع الصناعي المفرط، القريبة من المستهلكين، والأكثر شفافية، لإحياء البحر وقيمه. وفرنسا لديها كل الإمكانات لتحقيق هذا. فهي تتوفر على ثاني فضاء بحري بالعالم، وتصنع بواخر سياحية تنافسية، وتستضيف إحدى أقوى المقاولات في النقل البحري عالميا، وبحريتها العسكرية من بين الأكثر قوة في العالم. هي إذن تتوفر على كل شيء للإعلاء من شأن قيم بحارتها، سواء في المجال الاقتصادي أو السياسي، الفني أو التربوي.
عليها ألا تفوت هذه الفرصة، حتى تكون الذكرى الـ500 لإنشاء “لوهافر” مناسبة إيجابية للتفكير جديا في هويتنا.
ترجمة مبارك مرابط عن “ليكسبريس”

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي