محمد الفيلالي – أستاذ باحث
تنذر كثرة الاحتجاجات واستمراريتها، وقسوة المقاربات الأمنية الموجهة صوبها بتآكل شرعية الدولة، لاسيما وأن الغاية الأساسية للدولة هي توفير الأمن، وهذا المفهوم يتعدى بعده البوليسي ليشمل أبعادا أخرى، تتمثل في الأمن الاقتصادي والاجتماعي. وفي هذا السياق، كانت لحظة الربيع العربي أملا حقيقيا للشعوب المقهورة في بناء الدولة الحديثة، وخطرا طرق باب بعض الأنظمة، ونبه أخرى إلى مصير مماثل ما لم تأخذ بيد شعوبها إنقاذا للوطن والمواطن.
لكن هذا الأمل سرعان ما تحول إلى أهوال ودماء، نتيجة التدخلات الخارجية، وتعنت الأنظمة الحاكمة، وغياب مفهوم الدولة ككيان مؤسساتي ينفصل عن الحاكم حين تنسد في وجهه السبل. ولا شك أن طوفان الدم وكرة النار المستعرة في إقليم الشرق، نفرت الشعوب من التغيير، وجعلتها، في أكثر من مرة، تتباكى على الأنظمة البائدة، رغم عقمها وفشلها الذريع في كل المستويات.
لقد تمت عملية تدمير الربيع العربي بنجاح محبوك، شاركت فيها كل القوى الإقليمية والدولية من أجل وأد حلم الإصلاح، وتحولت، بالنتيجة، بوصلة الربيع من التغيير والإصلاح إلى محاربة التطرف، وحقن الدماء، وكبح الصراعات الطائفية التي تمدد عمر الحروب والدمار. أعادت هذه المشاهد وغيرها من مآسي القتل والتهجير… رموز الأنظمة السابقة إلى الواجهة، فاستجمعت قواها بعدما فقدت بعضا منها أمام موجات التغيير، وتحالفت بعد ذلك مع قوى الثورة المضادة، فأغلقت، تحت وطأة القمع والترهيب، مسارات الإصلاح، مقتنعة بأن عهد التغيير طويت صفحته دون عودة.
وهكذا أخضع الشعب المصري للتأديب العسكري ردا على ثورته، وترك الشعب التونسي يكتوي اقتصاديا ويتعثر أمنيا تحت ضربات الإرهاب، وزج بباقي الشعوب في أتون الحروب الأهلية وحروب الوكالة.
مسار الانقلاب على مكتسبات الثورات استهوى الأنظمة الملكية المستقرة نسبيا (الأردن والمغرب)، فسارت في ركبه وسلكته بعد سحب الإصلاحات، بيد أن هذا المسار عقيم المخرجات، وضيق الآفاق. إذ يتناسى أصحاب هذا الخيار أن جدار الخوف الذي احتمت به النخب الحاكمة قد اهتز بفعل زخم الاحتجاجات، وأن شعوب المنطقة أيقنت بأنها قادرة على فرض التغيير وإن بأكلاف ضخمة.
ومن جهة ثانية، فإن الشعوب احتكمت أيام الانتفاضات إلى الشارع للتخلص من بطش وقمع السلطات، والقطع مع السياسات الاقتصادية والاجتماعية المولدة للفقر والتهميش، والمتفننة في تقزيم دور المواطن وتكديحه، غير أن هذه السياسات لم تشهد أي تحسن أو تطوير، وإنما أصبحت أكثر سوءا وجورا.
هذا الغيض من فيض الأسباب هو الذي دفع الشعوب إلى اشعال انتفاضاتها في وجه الأنظمة الحاكمة، أملا في طي صفحة الفساد والاستبداد. والملاحظ أن هذه العوامل ظلت على حالها، وتسير نحو مزيد من التراكم. فالأنظمة التي تزعم الاستقرار، وتروجه عبر الشحن الإعلامي وزخم الشعارات والضغط الإيديولوجي، ماضية في تهميش شبابها، وتدعيم سلطويتها، وتقليص آفاق الإصلاح، وتخيير شعوبها بين الاستبداد والفوضى. وهذه الأنظمة لا تتوانى كذلك في خنق الطبقات الوسطى، وتبذير المال العام، والاستهتار بالسياسات العمومية والاقتصادية، وتوجيه أرباحها نحو بؤر الفساد، بدل استثمارها في تحسين عيش المواطنين. كل هذه الأمراض مازالت تنخر جسد دولنا، وتكذب مقولة الإصلاح، وتوضح هشاشة الاستقرار المرتبط أساسا ببعده الأمني البعيد كل البعد عن ركائزه الاقتصادية والسياسية.
إن التسويف المتعمد لمشروع الإصلاح، وإفشال المسار الديمقراطي عبر تمديد المراحل الانتقالية، أو الانقلاب عليها، تجعل الشعوب تنظر إلى نخبها الحاكمة ودولها نظرة العداء، لتنتهي إلى خلاصة مفادها أن الإصلاح الديموقراطي كمشروع لا يتعايش مع النظام القائم، لذلك تختار قوى التغيير اجتثاث هذا النظام من جذوره، لأنه رفض الإصلاح المتدرج في سياقات التوافق وعبر التناوب السلمي على السلطة، وسعى إلى الاستحواذ على الدولة، ومصادرة مؤسساتها من أجل تأبيد السلطوية، أي أنه نظام يسير عكس حركة التاريخ، فحكم على نفسه بالزوال… الخيارات اليوم في يد الأنظمة الحاكمة، فهي التي ستختار المصالحة مع شعوبها وتدعيم شرعيتها، أو المزج بين المقاربات الأمنية والسياسات التفقيرية في انتظار الانفجار الكبير.