« إذا رأيت تصريحات السياسيين تخالف التحركات العسكرية على الأرض فاضرب بها عرض الحائط »، هذه مقولة لقائد أركان الجيش المصري الراحل سعد الدين الشاذلي، في كتابه « الحرب الصليبية الثامنة »، وقالها في سياق حديثه عن حرب الخليج الثالثة في 1991، والتي يمكن أن تنطبق على الحرب الروسية الأوكرانية الجارية.
فروسيا خلال فترة حشدها لنحو 190 ألف من جنودها، سواء على حدودها الغربية مع أوكرانيا أو الحدود الجنوبية لروسيا البيضاء، أو أساطيلها في البحر الأسود وبحر آزوف، حرصت على نفي التحذيرات الأمريكية والغربية بأن هناك هجوما وشيكا لها على أوكرانيا. وعادة ما تلجأ الجيوش الكبيرة لمثل هذا التكتيك من أجل تحقيق عنصر المباغتة، ولكن أيضا لتفادي هجوم مضاد، لأنها تكون في أضعف حالتها عند عملية التحشيد.
وعندما أكملت موسكو تحشيدها العسكري، وطوقت أوكرانيا من الشرق والشمال والجنوب، كثفت حملتها الدعائية بشأن تعرض المدنيين في إقليمي دونيتسك ولوغانسك لقصف من الجيش الأوكراني، وهو ما نفاه الأخير، وكان ذلك مبررا كافيا، رغم أنه غير مقنع، لبدء الهجوم في 24 فبراير الماضي.
ثلاثة أهداف لليوم الأول
سعت روسيا في اليوم الأول لتحقيق مجموعة أهداف، أولها تحييد سلاح الدفاع الجوي، وثانيها الطيران الحربي، وثالثا الأسطول الأوكراني في بحري أزوف والأسود. ونجحت في تحقيق الهدف الأخير في 40 دقيقة بحسب موقع « آفيا-برو » الروسي، لسهولة استهداف القطع البحرية الأوكرانية المنتشرة بقواعد بحرية مكشوفة.
لكن الجيش الروسي واجه صعوبة في تحييد سلاح الدفاع الجوي والطيران الحربي، رغم قصفه معظم القواعد الجوية الأوكرانية ومنظومات لصواريخ أرض جو. ويتجلى ذلك من خلال إعلان السلطات الأوكرانية إسقاطها عدة طائرات حربية ومروحيات روسية، وتمكن طائرات بدون طيار من قصف عدة أرتال روسية وعرقلة زحف القوات الروسية نحو المدن الرئيسية طيلة الأيام العشرة الأولى من الحرب.
وساهم امتلاك أوكرانيا لعشرات الطائرات بدون طيار من حرمان موسكو من تسيّد سماء المعركة بشكل كامل، رغم تأكيدها تحقيق هذا الهدف. وقد زودت الدول الغربية كييف بمئات من صواريخ « ستينغر » المضادة للطيران، المحمولة على الكتف، والتي كانت السلاح الرئيسي الذي هزم السوفييت في أفغانستان عام 1989.
« ستينغر »، سلاح فعال ضد المروحيات الحربية والطائرات التي تحلق على علو منخفض، ونقطة ضعفه أن مداه محدود، ولا يمكنه إسقاط الطائرات التي تحلق على علو يفوق 11 ألف قدم (3352.8 متر). لذلك فحديث موسكو عن سيطرتها على سماء المعركة مشكوك فيه مع استمرار نشاط الطائرات المسيرة وتدفق صواريخ ستينغر على أوكرانيا.
بينما تم إضعاف دور الطائرات الحربية الأوكرانية النفاثة، التي لعبت دورا محدودا في التصدي للأسطول الجوي الروسي المتفوق عددا ونوعا، تجلى ذلك في إسقاط 4 طائرات أوكرانية من نوع سوخوي 27 في معركة جوية السبت، بحسب إعلام روسي.
الحرب البرية… خيار بوتين المكلف
عادة ما تلجأ الجيوش التي تملك هيمنة كاسحة على سماء المعركة، لخوض حرب جوية لأيام وحتى أسابيع، قبل الزج بقواتها البرية في أتون المعركة، بهدف تخفيض الضحايا في صفوف الجنود، بعد أن يتولى الطيران استهداف التجمعات الرئيسية لقوات العدو، ومراكز القيادة والتحكم.
غير أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، غامر بالزج بقواته البرية منذ اليوم الأول للحرب، بالتوازي مع القصف الجوي، حيث كان يعول على اجتياح سريع لأوكرانيا، وخاصة الجهة الشرقية من نهر دنيبر، التي تقسم العاصمة كييف والبلاد إلى شقين. وهذه الخطة العسكرية كلفت الجيش الروسي خسائر بشرية معتبرة، بلغت نحو 500 قتيل بحسب الروس، و10 آلاف قتيل بحسب الأوكرانيين، في ظرف أيام،
وفي كلتا الحالتين فالحصيلة ليست قليلة، خاصة بعدما خاض الجيش الروسي حرب شوارع في مدن أوكرانية وعلى رأسها خاركيف (شرق). إذ ساهم تزويد الولايات المتحدة الأمريكية ودول غربية الجيش الأوكراني بالآلاف من صواريخ غافلين ومولان المضادة للدروع، في صمود عدة مدن أمام الأرتال الروسية.
ودفعت هذه الخسائر الجيش الروسي لتغيير تكتيكه القتالي، من خلال محاصرة المدن بدل اقتحامها مباشرة، بهدف دفع الجنود الأوكرانيين والمسلحين المدنيين للاستسلام، ونجح هذا التكتيك في مدينة خيرسون (جنوب).
جبهات القتال
يمكن تقسيمها إلى أربع جبهات رئيسية، وكل جبهة يمكن أن تنقسم إلى عدة محاور، وهذه الجبهات تتمثل في:
1- الجبهة الشمالية: وتستهدف إسقاط كييف، وتغيير النظام وتنصيب حكومة موالية لموسكو، التي تأمل أن يؤدي سقوط العاصمة الأوكرانية إلى انهيار الجيش والمقاومة في بقية المدن، على غرار ما حدث في 2003، عندما أسقطت القوات الأمريكية وحلفاؤها العاصمة العراقية بغداد.
وتحركت الأرتال الروسية في اليوم الأول نحو شمال كييف، وتمكنت من التقدم بسرعة والسيطرة على مدينة تشرنوبيل، والاقتراب من أطراف العاصمة إلا أنها جوبهت بمقاومة شديدة من الجيش الأوكراني، أوقف زحفها على بعد 30 كلم عن وسط كييف.
ووصلت القوات الروسية السبت الماضي إلى مناطق لا تبعد عن وسط كييف سوى نحو 20 كلم، واشتبكت مع الجيش الأوكراني، في شمال غرب كييف، مما يكشف أن الوضع مازال حرجا رغم المقاومة الشرسة.
2- الجبهة الشمالية الشرقية:
وتضم هذه الجبهة خاركيف، ثاني أكبر مدينة أوكرانية، ولكنها الأقرب إلى الحدود الروسية، ومع ذلك شهدت مقاومة عنيفة للقوات المهاجمة التي وصلت إلى وسط المدينة، قبل أن تُجبر على خوض معركة شوارع اضطرتها للانسحاب. وتطوق القوات الروسية خاركيف دون أن تتمكن من اقتحامها، ما جعل البعض يشبهها بـ »ستالين غراد »، نسبة إلى صمود المدينة الروسية أمام الغزو النازي خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945).
وفي محور آخر من الجبهة نفسها، يشن الجيش الروسي هجوما عنيفا على مدينة سومي، الواقعة أيضا بالقرب من الحدود الروسية إلى الشمال من خاركيف، ويربطها طريق نحو كييف، باتجاه الغرب تتخلله عدة مدن وبلدات.
3- الجبهة الجنوبية:
تمثل المنطقة الرخوة في الدفاعات الأوكرانية، خاصة أنها مرتبطة جغرافيا بشبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا إليها في 2014، ومنها انطلق الهجوم نحو خيرسون، التي كانت أول مدينة كبيرة تسقط في يد الروس، خاصة وأنها تضم أقلية روسية ما ساعد في سقوطها. ومن خيرسون أيضا تحركت القوات الروسية نحو محور مدينة مايكوليف باتجاه الشمال، وفي طريقها إلى المدينة استولت على مفاعل نووي في مدينة زابوريجيا، بعد اشتباكات مع القوات الأوكرانية.
وعلى المحور الغربي تحاول القوات الروسية التقدم نحو أوديسا، أهم مدينة أوكرانية على البحر الأسود، للسيطرة على كل سواحل البلاد في هذا البحر.
4- الجبهة الشرقية:
وتتمثل في إقليم دونباس، الذي كان الجيش الأوكراني يسيطر على ثلثي مساحته قبل الهجوم الروسي، فيما يسيطر الانفصاليون في منطقتي دونيتسك ولوغانسك على الثلث الآخر. ويقول الانفصاليون إنهم تقدموا عشرات الكيلومترات نحو غرب دونباس، فيما تشهد الجبهة مقاومة ضارية من الجيش الأوكراني، لم تسمح بتحقيق هدف الروس في السيطرة على كامل الإقليم.
وتحاصر القوات الروسية مدينة ماريوبول، الواقعة على ساحل بحر آزوف، والواقعة جنوب دونباس، وقامت بتطويقها بدل اقتحامها، وسقوطها سيحول بحر آزوف إلى بحيرة روسية بالكامل، كما أنه سيصل القوات الروسية في الجبهة الجنوبية بجبهة دونباس في الشرق.
ففي 10 أيام من الحرب تمكن الجيش الروسي من السيطرة على مدينة واحدة رئيسية فقط، ولكنه يتحرك ببطء مثل القوس عبر أربع جبهات، من الشمال إلى الشرق والجنوب، ومحاولة غلق هذا القوس بالتقدم من الشمال والجنوب نحو كييف، ومحاصرة الجيش الأوكراني في كامل النصف الشرقي من البلاد، لدفعه نحو الاستسلام.
بالمقابل، حرم الجيش الأوكراني القوات الروسية من تحقيق نصر سريع، وكبدها خسائر بشرية مُعتبرة، بالنظر إلى الأسلحة التي زودته بها عدة دول قبل الحرب وأثناءها، وخاصة صواريخ ستينغر المضادة للطائرات، وصواريخ غافلين المضادة للدروع، ناهيك عن الطائرات بدون طيار.
عن وكالة الأناضول