عراقيات في فوهة المدفع الانتخابي... حملات مضللة تستهدف إخراج المرأة من العملية السياسية

06 أكتوبر 2025 - 20:00

 يوثق التقرير قصص مرشحات عراقيات شاركن في الدورات الانتخابية السابقة، وواجهن العنف السياسي رقمياً وميدانياً، مع استمرار إفلات الجناة من العقاب، وسط غياب آليات واضحة للمحاسبة.

في كل دورة انتخابية في العراق، تتجدد معركة المرأة المرشحة على مقاعد انتخابات مجلس النواب، لا مع صناديق الاقتراع فحسب، بل مع جيوش إلكترونية خفية وواقع مجتمعي يحارب وصول المرأة للمشهد السياسي. كان ذلك جلياً خلال الدورة الانتخابية الرابعة والخامسة بين عامي 2018 و2021، وتزداد احتمالية تكرار ذلك مع اقتراب انتخابات نونبر 2025.

« صورة » على جدران

تُزيّن الجدران ملصقات تحمل صور مرشحين ومرشحات. قد يبدو غريباً وقوف أحدهم أمام صورة إحدى المرشحات، لالتقاط صورة معها. لكن ما يثير الاستهجان حقاً هو مشهد يتجمع فيه رجال حول الصورة لتقبيلها. مشهد كهذا قد لا يمر مرور الكرام على صاحبة الصورة؛ فهو كفيل بإحراجها وإخراجها من السباق الانتخابي، في مجتمع يرى في هذا المشهد طعناً في شرف المرأة والعشيرة بأكملها.

تجسد قصة شهد كاظم خربيط خليفة -خريجة بكالوريوس إدارة الأعمال، وصاحبة دار الأزياء التي خاضت انتخابات مجلس محافظة بغداد في عمر الثلاثين- المفارقة المرة. إدراكاً منها لخطورة الفضاء الرقمي وضعف الحماية، اتخذت شهد قراراً فريداً: « ابتعدت عن نشر صوري ». تقول إنها اتخذت هذا القرار خلال حملتها الانتخابية، خوفاً على سمعتها وسمعة أهلها.

بحسب شهد، كان هذا القرار نابعاً من إيمانها بغياب تفعيل نصوص القانون، التي من شأنها حماية المرأة، وعدم وجود رقابة على مواقع التواصل الاجتماعي، التي يستخدم بعض روادها حسابات وهمية.

لكن حتى هذه الخطوة لم تكن كافية، فبصفتها شخصية معروفة في مجال عملها، لم تسلم شهد من الهجوم.

تتذكر كيف تلقت اتهامات مثل « تريد تنهب البلد ما كفاها العمل مالتها ». ورغم أنها لم تنشر صوراً يمكن فبركتها، فإن حملات التشويه المنظمة على فيسبوك استهدفتها بشائعات كاذبة، بالإضافة إلى السب والشتم والترهيب؛ فتعرضت لتهديدات ومضايقات من صفحات مجهولة.

واجهت شهد هذه الهجمات بـهدوء تام، ولم تلجأ إلى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات أو أي جهة أخرى، معتبرة أن « السكوت عن الجاهل » أفضل لتجنب تصعيد الموقف، كما أن الوقائع تؤكد أن الأطر القانونية في العراق لم توفر أي حماية للمرشحات.

ملصقات ممزقة وصورة مشوهة 

إيمانها بضرورة التغيير وشغفها بـالشأن العام، دفعا زينب عصام فاضل التكمجي، البالغة 32 عاماً، لخوض انتخابات مجلس النواب عام 2021. لكنّ زينب، كالكثيرات، اصطدمت بواقع « الرفض والعنف ». لم تقتصر المضايقات على محاولات التقليل منها بسبب عمرها، أو كونها « سافرة » (لا ترتدي الحجاب)، بل تجاوزت ذلك إلى الاعتراض على قدرتها كمرأة على القيادة، في مجتمع بحسب التكمجي لا يتقبل أن تأخذ المرأة هذا الدور.

تؤكد زينب أن حملتها تعرضت لـتخريب الملصقات والبوسترات بشكل مباشر، خاصة في مناطق المنافسة الشديدة. أما على الجبهة الرقمية، فقد واجهت محاولات تشويه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة الفيسبوك، من خلال صفحات « ممولة » تسعى إلى ضرب الثقة بين المرشحة وصورتها أمام الآخرين أو الناخبين، وفق زينب.

وعلى الرغم من لجوئها إلى آليات قانونية، ترى زينب أن الأطر القانونية بحاجة إلى تطوير وتفتقر إلى « تدخل فوري بعيداً عن الإجراءات الروتينية ».

استهداف الشرف والعرض… سلاح ضد المرشحات

تشير هناء حمود عباس، عضو مجلس إدارة شبكة « شمس » لمراقبة الانتخابات، التي راقبت أكثر من 15 عملية انتخابية منذ عام 2005، إلى أن العنف السياسي يتخذ صوراً نمطية مبنية على قوالب محددة لدور المرأة، فإذا تجاوزت النساء ظهوراً محدداً « سيصبحن عرضة للتنمر أو التشهير أو التسقيط ».

تؤكد هناء أن تلك الممارسات تستهدف بشكل خاص « شرف وعرض النساء »، مستغلة المفهوم الاجتماعي بأن « النساء شرف العائلة والعشيرة والمجتمع أيضاً ». هذا بخلاف الرجال، الذين عادة ما يُهاجمون بالفساد المالي، بحسب هناء.

وتُعد انتخابات 2018 « الأكثر عنفاً » ضد المرشحات، وحتى الناخبات. شنت « الجيوش الإلكترونية » وقتها حملات قاسية استهدفت مرشحات في الانتخابات، ضمن قوائم مختلفة، استُخدمت فيها صور وفيديوهات مفبركة لبعض المرشحات. كان من بين المرشحات، انتظار الشمري، وهي مدرسة جامعية اختارت أن تخوض هذه التجربة.

قبيل الانتخابات، انتشر مقطع فيديو « إباحي » مفبرك لها؛ ما دفع الائتلاف المُدرَجة على قوائمه إلى استبعادها من الانتخابات. وتعرضت لهجوم واسع من رواد مواقع التواصل الاجتماعي. قالت انتظار وقتها إنها كانت ضحية صراع سياسي.

تقول هناء حمود عباس، عضو مجلس إدارة شبكة « شمس » لمراقبة الانتخابات، عن تلك الواقعة: « تم تشويه صورتها بفيلم إباحي، وهي بريئة منه ». وعلى الرغم من إثبات براءتها من الزيف الإلكتروني، عبر محكمة في الإمارات، فقد استُبعدت من حزبها وجامعتها.

مضيفة أن انتظار حاولت الدفاع عن نفسها، لكنّ أحداً لم يصدقها، وانتشر الفيديو « المفبرك » بكثرة، وتداوله مستخدمو منصات التواصل الاجتماعي، حتى من النساء.

من منظور أكاديمي، تؤكد لينا الموسوي، مدرسة مساعدة في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، تطور العنف ضد المرشحات بشكل ملحوظ، ليشمل التزييف العميق، واختراق الحسابات الشخصية، ونشر المعلومات والفيديوهات المزيفة. وترجع ذلك إلى « ضعف البنية القانونية في التصدي للجرائم الإلكترونية، وضعف المحاسبة، بالإضافة إلى قصور في الوصول للمعتدين ».

تؤثر هذه الحملات في « التصورات المجتمعية حول دور المرأة في السياسة »، وتولد « إرهاباً اجتماعياً » من الشهرة. وتفسر لينا أن هذه الحملات « قولبت صورة المرأة »، خاصة في مجال السياسة، باعتبارها غير مناسبة للقيادة وصنع القرار. وبحسب لينا، فإن هذا يضعف « ثقة المجتمع بالنساء بشكل عام »، ويجعل المرأة « مترددة حتى في الذهاب للتصويت ».

وتؤكد أن المرشحة تتحمل « مسؤولية شرف العشيرة »؛ ما يمنع عائلات كثيرة من السماح لنسائهن بالترشح خوفاً من العواقب.

تطور آليات الحماية

حدّد قانون انتخابات مجلس النواب العراقي رقم (9) لسنة 2020، الذي أجريت بموجبه انتخابات 2021، نسبة تمثيل النساء بما لا يقل عن 25 في المئة من إجمالي مقاعد مجلس النواب، البالغة 329 مقعداً؛ ما يعني تخصيص ما لا يقل عن 82 مقعداً للنساء. هذه النسبة تُطبق أيضاً على مستوى كل محافظة، لضمان تمثيل المرأة محلياً.

كما اشترط القانون، عند تقديم القائمة المفتوحة، مراعاة تسلسل النساء بنسبة « امرأة بعد كل ثلاثة رجال ». هذا الشرط يهدف إلى زيادة فرص ترشح النساء ووصولهن إلى البرلمان.

وفي حال عدم فوز المرأة بعدد كافٍ من المقاعد، في دائرة انتخابية معينة، لتحقيق نسبة الكوتا المحددة، نصّ القانون على آلية مختلفة لتوزيع كوتا النساء. يُضاف بموجب هذه الآلية مقعد واحد (افتراضي) إلى عدد الفائزات في كل دائرة انتخابية. بعد ذلك، يُقسّم العدد الناتج عن هذه الإضافة على العدد الإجمالي للمقاعد المخصصة للدائرة الانتخابية، لتحديد النسبة المئوية للفائزات. ثم يُضاف مقعد واحد إلى عدد مقاعد النساء في الدائرة الانتخابية، التي حصلت على أقل نسبة مئوية.

وفي حال عدم استكمال العدد المطلوب من مقاعد المرشحات، تُعاد العملية من جديد مع احتساب الزيادة التي تمت في الخطوة الأخيرة.

ورغم حرص المُشرِّع على وضع آليات لتمثيل المرأة في الحياة السياسية، تقول هناء حمود عباس، عضو مجلس إدارة شبكة « شمس » لمراقبة الانتخابات: « لم تكن هناك آليات حكومية لحماية المرشحات ولا لكشف الزيف الإلكتروني عام 2018، ما جعل العنف الإلكتروني يصل إلى أوجه ».

وتشير إلى تغير المشهد عام 2021؛ إذ شكلت الحكومة لجنة لحماية النساء أثناء الانتخابات، تستهدف بشكل خاص المرشحات اللاتي كن الأكثر تعرضاً للتنمر، بهدف « إبعادهن عن القوائم » في ظل منافسة انتخابية تزداد شراسة. هذه اللجنة، بحسب هناء، وفرت أدوات حماية مهمة كالإبلاغ ومعالجة « الروتين » للسماح بتقديم الشكاوى مباشرة إلى المحكمة، وتوفير خطوط ساخنة للإبلاغ. هذا التطور « حدد بشكل جيد الخروقات المُمارسة ضد النساء ».

وفي انتخابات مجالس المحافظات 2023، أضافت هذه اللجنة حماية أخرى تمثلت في التعاقد مع شركة لإزالة البوستات المسيئة، خلال 24 ساعة من الإبلاغ، بدعم من منظمة UNFPA. هذا الإجراء « أعطى نوعاً من الطمأنينة للنساء »، خاصة بعد العزوف الكبير عن الترشح عام 2021، بسبب تجربة عام 2018.

وعلى الرغم من تطور أدوات الحماية، لا تزال ثقافة الإفلات من العقاب قائمة. تشير عضو مجلس إدارة شبكة « شمس » لمراقبة الانتخابات، إلى أن مرتكبي العنف الرقمي يمتلكون دهاء، وغالباً ما يدّعون أن فيديوهاتهم تأتي من خارج البلاد، وبالتالي لا يمكن السيطرة عليها.

توسع دائرة العنف

تسلط هناء حمود الضوء على أشكال أخرى من العنف، لا تقتصر على المرشحات فقط، بل تطال الناخبات والمراقبات، خاصة الشابات. فغالباً ما يتعرضن لـ »تساؤلات تثير مخاوف » حول انتمائهن العائلي وأماكن سكنهن، وشملت تقارير  شبكة « شمس » توثيق حالات تحرش من قبل بعض الجهات الأمنية في المراكز الانتخابية.

كما تشير إلى العنف الذي تتعرض له النساء والفتيات من ذوات الإعاقة، خاصة كبيرات السن؛ فيتعرضن لتنمر لفظي مثل: « شلها بهذا الموضوع هي بالقوة تمشي… اقعدي ببيتك وارتاحي ». هذا التنمر يدفع عائلات عديدة إلى منع بناتهم من المشاركة في العملية الانتخابية ».

« الإفلات من العقاب يفرغ الكوتا من مضمونها »

تلقي لينا الموسوي، مدرسة مساعدة في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، باللوم على أحزاب أو جهات منافسة تقف وراء هذه الحملات، مستخدمة « جيوشاً إلكترونية »، بهدف « كسر صورة المرشحات » وإجبارهن على الانسحاب. وتحذر من أن غض الطرف عن هذه الظاهرة أو تمويلها يجعل البيئة السياسية خطيرة، ويؤدي إلى خسارة المرشحات من أصحاب الكفاءة، اللاتي يتراجعن عن خوض هذا المجال.

المعضلة الكبرى، بحسب لينا، هي « ثقافة الإفلات من العقاب »؛ ففي العراق لا توجد أي سوابق قضائية واضحة، تُظهر محاسبة حقيقية للمعتدين على المرشحات. كما أن بطء الإجراءات القضائية يمنع الضحية من أخذ حقها.

وحذرت المدرسة المساعدة في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، من أن استمرار هذه الممارسات وعدم الحد منها سيؤثر « سلباً في وجود المرأة في الفضاء العام ».

مرشحات مستعدات للمواجهة 

تعترف المرشحة السابقة، شهد كاظم، بأن تجربتها الانتخابية أثرت فيها سلباً: « مستحيل أشارك بالانتخابات ولا لأي سبب كان »، مؤكدة أن هناك مرشحات تراجعن عن خوض الانتخابات خوفاً على سمعتهن. وتطالب الحكومة إلى حماية النساء من الهجمات الإلكترونية وتوعية المجتمع بأهمية دور النساء في مجال السياسة. كما تنصح شهد المرشحات المستقبليات بأن يتحلين بالقوة، ويواجهن المخاطر والصعاب بكل شجاعة.

أما عائشة رافع العبيدي، مرشحة للانتخابات العراقية القادمة، المزمع عقدها في نونبر 2025، فتستعد لخوض المعركة، مُسلَّحة بخبرتها باحثة في الشأن السياسي، وناشطة في تمكين المرأة. قرارها بالترشح لم يكن « وليد اللحظة » بل امتداد طبيعي لنشاطها، ولإيمانها بأن السكوت عن الخلل يُعدّ مشاركة فيه وأن « النساء القادرات مكانهن الطبيعي في دوائر القرار ».

تدرك عائشة تماماً أن التحديات ستكون قائمة، خاصة « حملات التضليل والتشويه » التي تعتزم مواجهتها « بالقانون ». رسالتها للناخبين واضحة: « المرأة ليست دخيلة على السياسة؛ إذ هي شريك أصيل، صوتكم للمرأة هو صوت للإصلاح الحقيقي ».

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *