المغرب، بتاريخه الغني وعلاقاته المتوازنة مع الشرق والغرب، يتأثر بكل تحول كبير في العلاقات الدولية. مؤخرًا، لفت انتباهي مقال بمجلة فرنسية متخصصة تناول التقارب الإيديولوجي بين اليمين الأمريكي والروسي، ممثلاً في « محور يارفين-دوغين »، الذي يجمع بين كورتيس يارفين، مفكر النيورياكشن (NRx) الأمريكي، وألكسندر دوغين، منظر الأوراسية الروسي. هذا التقارب، الذي يعزز الروابط بين التيارات اليمينية في الولايات المتحدة وروسيا، يثير تساؤلات حول تأثيره على قضية الصحراء المغربية، وهي قضية مصيرية بالنسبة لبلادنا. لذلك سأحاول في هذا المقال، التطرق لحيثيات التقارب الأمريكي الروسي حسب المقال المذكور، ومدى تأثير هذا التحالف الافتراضي على الحل النهائي للنزاع المفتعل بالصحراء المغربية، موضحا التحديات والفرص التي تنتظر المغرب في هذا السياق الجيوسياسي المتغير.
خلفية التقارب الروسي-الأمريكي: من الإيديولوجيا إلى الجيوسياسية
يؤكد مقال إيميل فيزون (صاحب المقال المذكور) التقارب بين اليمين الأمريكي والروسي من خلال تقاطع رؤى كل من كورتيس يارفين وألكسندر دوغين، اللذين يشتركان في رفض النظام الليبرالي العالمي. يارفين، من خلال حركة النيورياكشن، يدعو إلى استبدال الديمقراطية الليبرالية بنظام تقنوقراطي يديره « ملك-مدير تنفيذي »، بينما يروج دوغين للأوراسية كرؤية لتوحيد روسيا مع دول أوراسيا لمواجهة الهيمنة الغربية. هذا التقارب الإيديولوجي يترجم إلى مواقف سياسية عملية، ظهرت في تصريحات جي دي فانس، الذي أعلن في فبراير 2022 عدم اهتمامه بأوكرانيا، وفي لقاء غامض بين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين في ألاسكا في غشت 2025. دوغين نفسه يرى في ترامب وحركة « اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى »(MAGA) حليفًا محتملاً، حيث أشار في مقابلة مع CNN في مارس 2025 إلى « قواسم مشتركة » بينهما.
طبعا هذا التقارب قد يعيد تشكيل التوازنات الجيوسياسية بطرق تؤثر بشكل مباشر على قضية الصحراء المغربية. خصوصا وأن المغرب يعتمد بشكل كبير على الدعم الأمريكي منذ الاعتراف التاريخي بسيادته على الصحراء في دجنبر 2020. هذا الدعم عززته إدارة ترامب الثانية من خلال استثمارات اقتصادية في الأقاليم الجنوبية، كما أشار تقرير في Morocco World News في أكتوبر 2025 . لكن روسيا، التي تدعم الجزائر وجبهة البوليساريو، تشكل تحديًا مستمرًا، خاصة مع اقتراب تصويت مجلس الأمن حول تجديد بعثة المينورسو. وهو ما يجعل التقارب الأمريكي-الروسي، بمثابة فتح نافذة جديدة لتعديل الموقف الروسي أو تبني حياد أكبر، مما يعزز من مكاسب المغرب الدبلوماسية.
تحديات الصحراء المغربية في ظل التقارب
إن قضية الصحراء ليست مجرد نزاع إقليمي، بل قضيتنا الأولى. والاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء في 2020 كان إنجازًا دبلوماسيًا كبيرًا، تبعه دعم دول مثل فرنسا في 2024، مما عزز خطة الحكم الذاتي المغربية كحل مقبول دوليًا. ومع ذلك، يظل الموقف الروسي عقبة رئيسية. روسيا، التي تربطها علاقات عسكرية وثيقة بالجزائر، تدعم موقف جبهة البوليساريو في الأمم المتحدة، وقد تستخدم حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لمنع قرارات تدعم المغرب، كما يحذر تحليل من Security Council Report في أكتوبر 2025 .
في سياق التقارب الأمريكي-الروسي، قد يؤدي هذا التحالف إلى صفقات جيوسياسية تشمل قضايا مثل أوكرانيا أو الشرق الأوسط، والصحراء المغربية قد يطول مسلسل حلها النهائي إذا زج بها في مثل هذه المقايضات السياسية غير العادلة أحيانا. على سبيل المثال، إذا وافق ترامب على تخفيف العقوبات على روسيا مقابل تنازلات في أوكرانيا، كما تشير تصريحاته الأخيرة التي تهدد روسيا بفرض المزيد من العقوبات، فقد يتم التضحية بقضية الصحراء كجزء من صفقة أوسع. وهو ما يعني أن المغرب سيواجه تحديات في الحفاظ على دعم الولايات المتحدة إذا أعطت إدارة ترامب الأولوية لقضايا أخرى.
علاوة على ذلك، فإن التقارب قد يعزز الاستقطاب الدولي، مما يجعل من الصعب على المغرب الحفاظ على الزخم الدبلوماسي الذي حققه. على سبيل المثال، إذا استمر التقارب في إضعاف أوروبا، شريكنا الاقتصادي الرئيسي، فقد يؤثر ذلك على استثماراتنا في الصحراء، خاصة في مشاريع الطاقة المتجددة والبنية التحتية في العيون والداخلة. كل هذه التحديات تتطلب منا تعزيز دبلوماسيتنا النشطة لضمان بقاء قضية الصحراء في صدارة الأولويات الدولية.
فرص دبلوماسية: المغرب كفاعل استراتيجي
رغم هذه الصعوبات، هناك فرصًا كبيرة أمام المغرب في هذا السياق المتغير. بفضل موقعه الجغرافي الاستراتيجي وتراثه الثقافي المتسامح، حيث يمتلك المغرب القدرة على لعب دور الوسيط بين الشرق والغرب، مما يعزز مكانته في قضية الصحراء. إذ يعمل المغرب على تعميق علاقاته مع روسيا في مجالات الطاقة والتجارة، دون التخلي عن الدعم الأمريكي والأوروبي. هذه الاستراتيجية المتوازنة تتيح للمغرب استغلال التقارب الأمريكي-الروسي لتعزيز موقفه.
التقارب الأمريكي-الروسي يمكن أن يكون فرصة ذهبية للمغرب لتعزيز سيادته على الصحراء من خلال استغلال الديناميكيات الجيوسياسية الجديدة:
أولاً، إذا نجحت الولايات المتحدة في إقناع روسيا بتبني موقف محايد في مجلس الأمن، كجزء من صفقة أوسع تشمل قضايا مثل أوكرانيا أو تخفيف العقوبات، فقد يقلل ذلك من معارضة روسيا لخطة الحكم الذاتي المغربية. فقد أكد تقرير لمؤسسة The Washington Institute في شتنبر 2025 أن الولايات المتحدة ستواصل دعم المغرب في تجديد بعثة المينورسو، مع التركيز على التنمية الاقتصادية في الأقاليم الجنوبية.
ثانيًا، يمكن للمغرب الاستفادة من هذا التقارب لجذب استثمارات روسية في الصحراء، خاصة في قطاعات الطاقة والتعدين. على سبيل المثال، مشاريع مثل ميناء الداخلة الأطلسي يمكن أن تجذب استثمارات روسية إذا تحسنت العلاقات بين واشنطن وموسكو، مما يعزز التنمية الاقتصادية في الصحراء ويؤكد سيادتنا عليها.
ثالثًا، التقارب قد يساهم في تخفيف التوترات الإقليمية مع الجزائر، التي تعتمد على روسيا عسكريًا. وبالتالي يمكن للمغرب الاستفادة من المنافسة بين القوى العظمى لتعزيز موقفه في النزاع. إذا أدى التقارب إلى إعادة تقييم روسيا لدعمها للجزائر، فقد يفتح ذلك الباب لمبادرات حوار مغاربي، مثل التعاون في مشاريع الطاقة أو التجارة، مما يقلل من الصراع ويعزز الاستقرار الإقليمي. وهو ما من شأنه تحويل الصحراء من منطقة نزاع إلى مركز للتعاون الإقليمي.
رؤية مغربية: التوازن والطموح
إن ما حققته بلادنا في قضية الصحراء، من كسب دعم دولي واسع إلى تطوير بنية تحتية متطورة في أقاليمنا الجنوبية يعد مكسبا كبيرا. لكن التقارب الروسي-الأمريكي يحمل مخاطر وفرصًا في آن واحد. من جهة، فقد تؤدي الصفقات الجيوسياسية إلى إهمال قضيتنا إذا لم نكن حذرين. ومن جهة أخرى، يمكن أن يفتح أبوابًا لتعاون جديد مع روسيا، خاصة إذا أثرت الضغوط الأمريكية على موقف الكرملين.
لذلك على المغرب مواصلة دبلوماسيته متعددة الأطراف، معززًا علاقاته مع الولايات المتحدة وأوروبا، بينما يفتح قنوات حوار مع روسيا والصين. هذا التوازن سيضمن بقاء قضية الصحراء في صدارة الأولويات الدولية.
في تطور يعزز الفرص الدبلوماسية أمام المغرب، أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في جوابه على سؤال لصحافية تمثل الإعلام الرسمي الجزائري يوم الإثنين 13 أكتوبر 2025، استعداد موسكو لدعم خطة الحكم الذاتي المغربية كإطار واقعي لتسوية النزاع حول الصحراء، معتبرًا إياها « شكلاً من أشكال تقرير المصير المعترف به من طرف الأمم المتحدة »، شريطة أن يحظى بالتوافق بين جميع الأطراف المعنية. هذا التحول في الموقف الروسي التقليدي، الذي كان يركز على الاستفتاء، تؤكده زيارة وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة إلى موسكو الخميس 16 أكتوبر 2025، حيث أجرى مباحثات معمقة مع لافروف تركزت على تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، مع إيلاء أهمية خاصة لقضية الصحراء في سياق التحولات الجيوسياسية. هذه الزيارة، التي تأتي بعد تصريح لافروف مباشرة، تعكس حرص المغرب على استثمار التقارب الأمريكي-الروسي لتعزيز حوار ثنائي مع روسيا.
ختاما، يذكرنا هذا التقارب الروسي-الأمريكي بأن قضية الصحراء المغربية ليست معزولة عن التغيرات العالمية. وأن المغرب بفضل دبلوماسيته الذكية وموقعه الاستراتيجي، قادر على تحويل هذه التحديات إلى فرص. إذ يجب أن نستمر في تعزيز الشراكات الدولية، مع التركيز على التنمية الاقتصادية في الصحراء وتأكيد سيادتنا، وهو ما يفرض أن توازيه إجراءات داخلية، وفي مقدمتها تسريع تطبيق مقتضيات الجهوية الموسعة التي على أساسها ينبني مقترح الحكم الذاتي الموسع، ولا يمكن أن يتم تكريس هذه المقتضيات إلا بتظافر جهود الجميع: حكومة، أحزاب سياسية، نقابات، المجتمع المدني، وسائل الإعلام… لنحقق العدالة المجالية ونتجاوز كبوة المغرب الذي يسير بسرعتين. فالنظام العالمي الجديد، بكل تعقيداته، قد يكون فرصة للمغرب ليثبت أنه ليس فقط بلدًا مستقرًا، بل قوة إقليمية قادرة على المساهمة في تشكيل المستقبل.