قراءة في أولويات الخطاب الملكي: بين مطالب الشباب ورؤية الدولة

11 أكتوبر 2025 - 10:39

في منعطف سياسي واجتماعي دقيق، يتزايد فيه الشعور بوجود فجوة بين تطلعات المواطنين وأداء المؤسسات، يأتي الخطاب الملكي السامي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية بالبرلمان، يوم 10 أكتوبر 2025، كوثيقة سياسية بالغة الأهمية. يمكن قراءة هذا الخطاب كتفاعل ضمني ومدروس مع مجموعة من الانشغالات العميقة التي تعبر عن نفسها في الفضاء العام، والتي لم تعد تقتصر على المطالب المادية التقليدية.

ورغم أن الخطاب لا يشير بشكل مباشر إلى فئة الشباب أو مطالبها الصريحة، إلا أنه يتفاعل بوضوح مع جملة من هواجسها المتمثلة في بطء وتيرة التنمية، وتآكل الثقة في قنوات الوساطة السياسية، والحاجة الملحة إلى منظومة حكم قائمة على العدالة والنجاعة والشفافية. بهذا المعنى، يقدم الخطاب إجابات الدولة عن أسئلة يطرحها المجتمع بأسره، ويشكل الشباب طليعتها الأكثر تعبيرا وإلحاحاً، مقترحاً مساراً للتحديث يركز على الأدوات والمنهجيات متفاديا الخوض في البنية السياسية الكبرى ومنها ما يتعلق بالحكومة وأسئلة الشرعية المرتبطة بها.

جوهر رسائل الخطاب الملكي لا يكمن في إعلان سياسات تفصيلية بقدر ما يكمن في رسم إطار توجيهي يهدف إلى تجديد عميق في طريقة الحكم وليس بالضرورة في بنيته ومن ضمنها البنية الحكومية والبرلمانية.

هذه الفلسفة تتجلى في الدعوة الصريحة إلى « تغيير العقليات »، وهي دعوة تتجاوز التوجيه الإداري لتلامس ضرورة الانتقال من ثقافة البيروقراطية المنغلقة التي تقدس الإجراءات إلى ثقافة إدارية منفتحة، ومرنة، وموجهة نحو حل مشاكل المواطنين. يكمل هذا التوجه التأكيد على « ترسيخ ثقافة النتائج »، التي تمثل قطيعة مع منطق « ثقافة الوسائل » حيث يقاس الأداء بحجم الميزانيات المخصصة لا بحجم الأثر الفعلي على أرض الواقع. هذا التحول يعني أن كل درهم من المال العام يجب أن يكون مرتبطاً بأثر قابل للقياس، وهو مطلب جوهري في استعادة الثقة. وتأتي « الرقمنة » التي وردت في الخطاب كأداة تنفيذية حاسمة في هذا السياق، فهي ليست مجرد تحديث تقني، بل آلية لفرض الشفافية، وتمكين المواطن من تتبع السياسات العمومية، وربط التمويل بالمردودية بشكل لا يقبل الجدل.

على المستوى المؤسساتي، يُحمّل الخطاب شبكة الفاعلين الوسيطة – من برلمان وأحزاب سياسية وجماعات ترابية وإعلام – مسؤولية تاريخية ومباشرة في ترميم جسور الثقة المنهارة. إن هذا التشخيص يعكس فهماً عميقاً بأن الأزمة الحالية هي في جوهرها أزمة وساطة، حيث فقدت هذه الهيئات قدرتها على تأطير المجتمع وتمثيل انشغالاته بفعالية. فالخطاب لا يكتفي بتوزيع الأدوار، بل يبدو كإنذار لهذه المؤسسات بأن شرعيتها مرتبطة بقدرتها على تجديد خطابها وأدواتها والانفتاح على لغة العصر ومتطلباته. إنها دعوة صريحة لها لكي تنتقل من دورها التقليدي كبنى انتخابية موسمية إلى فاعل دائم في النقاش العمومي والتأطير الميداني، ومعالجة أسباب العزوف السياسي بدلاً من الاكتفاء بتحليل نتائجه.

ولا يظل هذا الإطار التوجيهي مجرداً، بل يجد تطبيقه الملموس في وضع الخطاب للعدالة الاجتماعية والمجالية كبوصلة استراتيجية حاكمة للسياسات العمومية. هذا التوجه يمثل اعترافاً بأن نماذج التنمية العمودية الموحدة قد وصلت إلى حدودها، وباتت في بعض الأحيان سبباً في تعميق الفوارق. لذلك، يرسم الخطاب معالم هندسة تنموية أكثر ذكاءً وتمايزاً، تراعي الخصوصيات المحلية وتستثمر فيها: فالعناية بالمناطق الهشة كالجبال والواحات لم تعد عملاً خيرياً بل ضرورة استراتيجية لتحقيق التوازن، وتفعيل اقتصاد بحري متكامل ليس مجرد استغلال للثروة السمكية بل رؤية شاملة للسياحة والخدمات واللوجستيك، كما أن تطوير المراكز القروية الناشئة هو استجابة استباقية لضبط التوسع الحضري العشوائي وتقريب الخدمات الأساسية.
وفي سياق متصل، تفاعل الخطاب الملكي مع الجدل الذي أثارته بعض الاحتجاجات حول أسبقية المشاريع الكبرى على الحاجات الاجتماعية، وهي الإشكالية التي تبلورت في شعار « الملعب أم المستشفى ». فقد قدّم الخطاب مقاربة لا ترى تعارضاً بين المسارين، بل تؤسس لترابطهما، معتبراً أن المعيار الحقيقي لضبط الأولويات وتقييم جدوى أي مشروع وطني من المفروض أن يرتبط دوما بأثره الملموس في « تنمية البلاد وتحسين ظروف عيش المواطنين، أينما كانوا ».

لكن رغم هذه الإشارات القوية على مستوى الحكامة والتدبير، يظل الخطاب متحفظاً فيما يتعلق بتغيير قواعد اللعبة السياسية. فلا نجد إشارة إلى تفعيل الآليات الدستورية للمحاسبة السياسية، أو إصلاحات جوهرية لتوسيع قاعدة المشاركة، أو صيغ لإدماج الشباب في مراكز صنع القرار من مثل تفعيل المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي. هنا تبرز المقاربة التي تتبناها الدولة خلال هذه المرحلة، حيث يتم التركيز على تحسين « شرعية الإنجاز » عبر الرفع من أداء الإدارة وتقديم نتائج ملموسة، مع الحفاظ على « شرعية التمثيل » ضمن قواعدها الحالية. ولعل هذا التحفظ يجد تفسيره في مستويين؛ مستوى دستوري مرتبط بمقتضيات دستور 2011 التي تضبط العلاقة بين المؤسسات وتجعل إقالة الحكومة مساراً مرتبطاً بالبرلمان بالأساس أو بمبادرة تلقائية من رئيس الحكومة، بما يحد من إمكانية الاستجابة المباشرة لمثل هذه المطالب السياسية. ومستوى استراتيجي أعمق، يتمثل في الحرص، ربما، على حماية المكانة التحكيمية للمؤسسة الملكية كضامن للاستقرار؛ فالاستجابة الفورية لمطالب الشارع السياسية قد ترسخ تكريسا للتماس المباشر بين المحتجين والملك، مما قد يُدخل المؤسسة الملكية في دائرة التجاذب السياسي اليومي، وهو دور قد لا تحبذ اللجوء إليه إليه إلا في اللحظات التاريخية الاستثنائية والفاصلة التي تقتضي تدخلاً مباشراً بما يتيحه الدستور، كما حدث في سياق حراك 2011.

خلاصة القول، إذا كانت مطالب الجيل الجديد تتمحور حول رباعية: المشاركة، المحاسبة، العدالة، والنجاعة، فإن الخطاب الملكي لافتتاح البرلمان يلتقط بوضوح وبقوة مطلبي العدالة والنجاعة، مقدماً لهما خارطة طريق عملية – إذا تم الالتزام الدقيق بها – قائمة على الحكامة الجيدة والأدوات الحديثة. ولكنه يترك مسألتي المشاركة والمحاسبة ضمن إطارهما الحالي، متجنبا الخوض فيهما.

وهنا يطرح الوضع السياسي الراهن سؤالاً حاسماً: إذا كانت هذه الحكومة تقترب من نهاية ولايتها ولم يتبق لها سوى عام واحد، وبعد أن راكمت، بسياساتها المرتجلة، خلال أربع سنوات، حجمًا غير مسبوق من الاحتجاجات والاحتقان، بلغ ذروته في الحراك الشبابي الذي لا يمكن الاستهانة بأهميته وأسئلته العميقة، فهل ستنجح – خلال الحيز الزمني الضيق المتبقي من عمرها – في التفاعل الإيجابي مع خارطة الطريق التي حدّدها الخطاب الملكي، وتنزيل مقتضياتها بما يخفف التوتر ويستجيب لتطلعات المواطنين، وفي مقدمتهم جيل الشباب الجديد؟ أم أن استمرار نهجها الحالي والجدل بشأن شرعيتها، سيؤدي إلى تراكم المزيد من الاحتقان، والعجز عن تحقيق ما تضمنه الخطاب من أهداف، بما يزج بالبلاد في دوامة أوسع من الأزمات، وبما يجعل من الفرصة وطوق النجاة الذي منحها الخطاب الملكي فرصة ضائعة تزيد من منسوب التوتر والاحتقان.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *