قبول حماس بخطة وقف إطلاق النار... بين حكمة الضرورة وألغام الطريق

04 أكتوبر 2025 - 20:33

ا​لقبول « الإيجابي » الذي أبدته حركة حماس تجاه خطة وقف إطلاق النار ليس تنازلاً عن الحقوق، بل هو تموضع براغماتي يهدف إلى التقاط أنفاس مجتمع قدم شهداء بالآلاف وأنهكته حرب الاستنزاف حيث تسعى الحركة من خلال هذه الخطوة إلى تحويل التضحيات الجسام إلى رافعة تفاوضية فعّالة لوقف القصف، وإتمام صفقة تبادل الأسرى، وفتح المعابر، تمهيداً لانسحاب إسرائيلي تدريجي. ولكن نجاح هذا المسار يبقى مرهوناً بشرط جوهري: سد ثغرات التنفيذ، وتأمين ضمانات دولية مُلزمة عبر أدوات رقابية صارمة.

من الاشتراطات إلى إدارة المخاطر:

​اللافت في هذا الموقف المستجد هو أنه يجمع بين وضوح الهدف المتمثل في إنقاذ المجتمع، وبين الإدراك العميق لحدود القوة في لحظة تاريخية فارقة. لقد انتقلت الحركة من لغة الاشتراطات القصوى إلى لغة إدارة المخاطر، فقبلت إطاراً عاماً يشمل وقف القتال، وتبادلاً للأسرى، وتوسيع الممرات الإنسانية، وانسحاباً متتابعاً للقوات، مع التمسك بخطوط حمراء ترفض التهجير القسري أو استخدام التجويع سلاحاً ضد المدنيين. هذا التحول ليس منفصلاً عن واقع الخراب الهائل الذي يهدد بتفكيك البنية المجتمعية في غزة، ولا عن حقيقة أن حفظ المجتمع هو شرط لازم لحفظ القضية، وأن تثبيت الناس فوق أرضهم يسبق أي مكسب رمزي في معركة طويلة النفس.

​هذه البراغماتية ليست استجابة عمياء لضغوط خارجية، بل هي نتاج قراءة دقيقة لتوازنات لحظة معقدة، تتشابك فيها رسائل العواصم الوسيطة مع مهلة سياسية ضيقة وإرهاق إقليمي متنامٍ من حرب مفتوحة على كل الاحتمالات. لقد تضافرت عوامل عدة لإنضاج هذه الفرصة، منها ضغط عربي وإسلامي حثّ على التقاط « أفضل الممكن » لوقف النزيف، وتغير ملحوظ في نبرة العواصم الكبرى تجاه أولوية وقف القصف وحل ملف الأسرى، ووعي متزايد بأن الكلفة السياسية والأمنية لاستمرار الحرب باتت تهدد شرعية جميع الأطراف. وفي خضم هذا المناخ، برزت صيغة وقف إطلاق النار كمسار لإنقاذ الأرواح وفتح نافذة في جدار الانسداد السياسي.

في ميزان الذكاء السياسي، تحاول حماس تحويل الضغط إلى رصيد ملموس، عبر قبول عناصر إنسانية وأمنية عاجلة، مع تعليق القضايا البنيوية على توافق وطني أوسع ودعم عربي وإسلامي يضمن ألا تتحول الإدارة الانتقالية إلى وصاية، أو الترتيبات الأمنية إلى عقاب جماعي. إن ربط تبادل الأسرى بتتابع الانسحاب ليس مناورة شكلية، بل صياغة لضمانات متبادلة تمنع تملص أي طرف من التزاماته. وهو في الوقت ذاته خطاب موجه للداخل الفلسطيني مفاده أن وقف النار ليس تنازلاً عن الحق، بل هو تثبيت للناس على أرضهم وتخفيف للمأساة، تمهيداً لمسار سياسي يعيد الاعتبار لحق تقرير المصير.

ألغام ظاهرة وخفية:

​على أن هذا المسار يبقى محفوفا بألغام ظاهرة وخفية، يبرز في مقدمتها خطر فجوات التنفيذ. فالتفاصيل الدقيقة المتعلقة بالجداول الزمنية، وخرائط الانتشار، وخطوط الانسحاب، وتعريف الخرق وكيفية توثيقه، وآليات التحكيم والعقوبات، وسقوف المساعدات وممراتها، هي التي أسقطت اتفاقات كبرى في تاريخ الصراع. وإن تُركت هذه التفاصيل للمناطق الرمادية أو لموازين القوى الميدانية، فإنها مرشحة لإعادة إشعال الصراع. أما اللغم الثاني، فيتمثل في الخلاف العميق حول « اليوم التالي » في غزة، حيث تتجاهل – الطروحات التي تدعو إلى إدارة انتقالية « منزوعة السياسة » أو ترتيبات أمنية مُعولمة تنزع السلاح قبل نزع أسباب العنف الصهيوني- البنية الاجتماعية والسياسية المعقدة للقطاع، مما ينذر بفراغ قاتل في السلطة أو ازدواجيتها. ويتصل بذلك مباشرةً اللغم الثالث، المتمثل في الشروط القصوى المتقابلة، فمطالب الإقصاء الكامل من جهة، والاعتراف الشامل من جهة أخرى، هي وصفة لهدنة هشة معلّقة على أول رصاصة طائشة، لا أساس لاستقرار دائم.

من هدنة مؤقتة إلى مدخل لحقوق دائمة:

​يبقى السؤال المحوري: كيف يمكن للفلسطينيين تحويل هذه الفرصة من هدنة مؤقتة إلى مدخل لحقوق دائمة؟ الإجابة تبدأ بوحدة تمثيلية عملية لا شعاراتية، تتجسد في غرفة قرار تفاوضية فلسطينية مشتركة تعلو فيها الكفاءة على المحاصصة، وتضم قانونيين وعسكريين وخبراء في الشأن الإنساني لإدارة تفاصيل الاتفاق بنداً بنداً. ومن هذه الغرفة، يجب تقديم « مصفوفة تنفيذ » دقيقة بالمواعيد والمؤشرات، وآلية مراقبة مستقلة متعددة الأطراف. ويتطلب الأمر كذلك تحديد سقف سياسي واضح، وهو أن وقف النار ليس غاية بحد ذاته، بل محطة على طريق الدولة المستقلة، يرافقه برنامج إعادة إعمار مُحكَم التمويل والحوكمة، وربط أي ترتيبات أمنية بضمانات حرية الحركة ورفع الحصار. ولتحقيق ذلك، لا بد من استعادة شرعية المؤسسات عبر التوافق على مسار انتخابي فور استقرار الحد الأدنى من الأمن، حتى لا تتحول المرحلة « الانتقالية » إلى وضع دائم. كل هذا يجب أن تسانده رواية عامة موحدة تشرح منطق « حكمة الضرورة »، وتبدد الثنائية الزائفة بين المقاومة والواقعية، فالعقل المقاوم يمكن أن يتعايش مع العقل التفاوضي ما دامت الحقوق هي المرجعية، والإنسان هو مقصد السياسة لا وقودها.

​إقليمياً، يتعين على الوساطة العربية أن تنتقل من دور « الضغط للإبرام » إلى دور « الضامن للتنفيذ »، عبر تمويل سريع وشفاف للإغاثة، ودعم تقني للإدارة المدنية، وتوفير مظلة سياسية تحمي الاتفاق من محاولات إفراغه من محتواه. ودولياً، المطلوب هو ربط أي دعم سياسي بمبادئ القانون الدولي الإنساني، بحيث يغدو خرق وقف النار أو التلاعب بالمساعدات مكلفاً سياسياً وقانونياً.

خلاصة:

​خلاصة الموقف أن قبول حماس بخطة وقف النار هو تعبير عن حكمة تفرضها الضرورة، هدفها إنقاذ المجتمع وتثبيت الناس وفتح نافذة في جدار كثيف من العنف. لكن هذه الحكمة تحتاج إلى سند متين قوامه وحدة القرار الوطني، وضمانات تنفيذ دقيقة، ورؤية انتقالية تُشرك ولا تُقصي. بين شِقّي هذا المقص، يمكن لهذا القبول أن يرتقي من هدنة اضطرارية إلى محطة تأسيسية لحق طال انتظاره، حيث يصبح وقف إطلاق النار بداية لسياسة جديدة، لا مجرد فاصل قصير بين جولتين من الألم.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *