(الحلقة الأولى)
« طوماس مولاي عبد الله »، اسم ينهض من عمق التناقض، كفسيفساء ضاعت بعض أحجارها فبقيت نصف ملوّنة بزجاج معابد طليطلة القوطية، ونصفها الآخر مشبع بأصداء منابر قرطبة الأندلسية. مجرد لفظه كان كافياً ليوقظ في داخلي تاريخاً بأكمله، لكنه تاريخ ممزق، موزع بين لغتين، بين دينين، بين ضفتين. تعرفت عليه ونحن طلبة في جامعة مدريد « كومبلوتنسي »، في ثمانينيات القرن الماضي. ملامحه كانت لغزاً آخر. لم يكن على صورة الإسبان الذين تحمل وجوههم سُمرة الجنوب، ولا على هيئة العرب الذين يلمع في عيونهم سحر البيان، ولا على هيئة الأمازيغ الذين تنطق ملامحهم بعزّة الجبال.
كان شعره أشقر كالقمح في سهول قرطبة حين تحترق تحت شمس يوليو، وعيناه خضراوان كبحيرة رندة التي لا تزال تحرس سر الزيتون والجبال، وتروي حكاية الأندلس الباقية في عمق الماء. ولم أملك إلا أن أرى في ملامحه أثراً من دماء الصقالبة، أولئك الشقر الجرمان الذين جاءوا من أقاصي الشمال، عابرين جبال البرانس، فانصهروا في فسيفساء المجتمع الأندلسي حتى صاروا جزءاً من روح الحضارة الأندلسية.
ولم يكن هذا الاحتمال غريباً؛ فقد عرف تاريخ الأندلس انتشار العنصر الأشقر بين الأمراء والأعيان، نتيجة زيجات متكررة من الجواري الصقلبيات. ويشهد على ذلك ابن حزم حين يصف بني أمية، بأنهم مجبولون على حب الشقراوات حتى صار ذلك في نسلهم وخلقتهم، وكان ابن حزم نفسه مفتون بالشقراوات، وقد ورث ذلك الافتتان عن والده كما يخبرنا في طوق الحمامة، حيث يقول: « أحببت في صباي جارية لي شقراء الشعر فما استحسنت من ذلك الوقت سوداء الشعر، ولو أنه على الشمس أو على صورة الحسن نفسه… وهذا العارض بعينه عرض لأبي رضي الله عنه ».
هكذا بدا لي « طوماس مولاي عبد الله » حلقة أخرى في تلك السلسلة الخفية، ربما كان أحد أجداده من صقالبة البلاط، ورث عنهم ذاك الصفاء الذهبي في الشعر، وذلك الخضاب البحري في العينين، كأن الجينات حملت معها ذاكرة قديمة تعيد إنتاج نفسها جيلاً بعد جيل، لتذكرنا بأن الأندلس لم تكن مجرد أرض، بل كانت نسيجاً حياً تتجاور فيه الدماء كما تتجاور اللغات والأديان والذكريات.
كنتُ طالباً في شعبة التاريخ وكان « طوماس مولاي عبدالله » طالباً في شعبة اللغة العربية، وقد توطدت علاقتي به، لأنني كنت أحضر دروس المستعرب الكبير « فيدريكو كورينتي » Federico Corriente أستاذ اللغة العربية بالجامعة، وصاحب القواميس المشهورة، ومؤلف أهم كتاب عن التفاعل التاريخي بين العربية والإسبانية. الرجل يشد الجميع بطريقة تدريسه، يشرح أصول اللغة العربية كما لو أنه ينقّب عن جواهر مدفونة في صحراء قديمة. كانت القاعة مكتظة بالطلبة، والصرامة هي القانون، فلا همس ولا ضحكة إلا إذا جاء ذكر « طوماس مولاي عبد الله ». عندها فقط كان وجه الأستاذ الجامد يلين لحظة، كأن الاسم يفتح أمامه باباً إلى صفحات منسية من تاريخ الأندلس.
وكان « كورينتي » يطلب من « طوماس » أن يردد أبياتاً تنتهي بحرف العين، اختباراً لا يخلو من قصد:
« عيونك أنت ولي في عينيك حياة »
« ما أنت إلا لأكون عيناً لقلبك ونوراً لعينيك ».
لكن الطامة أن « طوماس »، رغم وسامته وثقته التي تبهر العيون، كان يتعثر كلما بلغ الحرف الصعب. يخرج « العين » ضعيفاً كغصن يابس، فيتعالى ضحك مكتوم بين المقاعد. يرفع رأسه مبتسماً ويقول بمرح محتج: « عَيْنُ العربية تعذبني ». من آخر القاعة، ترد طالبة عربية بنبرة مازحة: « وعَيْنُك تعذب العربية » (تلميحاً لإعجابها بعينيه المليحتين). تتحول القاعة في لحظة إلى مسرح صغير، تختلط فيه خفة الدم بجِدية العلم، لكن الأستاذ سرعان ما يعيد الجميع إلى جادة الصمت، كأن ما جرى لم يكن سوى هامش عابر على متن المخطوط الكبير الذي يدرسه.
كنت أتابع المشهد بانبهار ممزوجاً بالدهشة. كم بدا لي أن حرفاً واحداً قد يصبح جداراً بين حضارتين: « عينٌ لا تُنطق هي عين مغلقة على تاريخ كامل ». وربما لهذا كان « طوماس » يتقرب من الطلبة العرب أكثر من غيرهم، يشاركهم النكات والحوارات، يطلب منهم تصحيح نطقه، ويضحك على نفسه قبل أن يضحكوا. كان يحلم أن يتقن العربية ليكسر عقدته، وكنا نحن نحلم أن يكشف لنا سر اسمه الغريب، ذلك التزاوج المركب وغير المنسجم بين « طوماس » و »مولاي عبد الله ».
ـ قلت له مرة: « اسمك وحده قصة… ألا يستحق أن تُروى؟ »
ـ ابتسم وهو يهز رأسه مردفاً: « كل ما أعرفه أنني من نسل موريسكيين نبلاء… وما عدا ذلك غامض ».
ذات يوم، جلسنا في مطعم الجامعة، قرب نافذة تطل على أشجار جرداء في خريف مدريد. كان المكان يعج بالطلبة، وأصوات الملاعق تختلط بضحكات الشباب، كما تختلط أجراس كاتدرائية « المدينة » Almudena (نواة مدينة مدريد الإسلامية) بعزف الغيتار في ساحة « بلاثا مايور »Plaza Mayor ، في صخب ليلٍ يستنكر الصباح. اعتاد « طوماس » أن يطلب طبق « السبانخ بالحُمُص ». هو الطبق الذي كان يزين موائد الأندلس منذ تحدث عن فوائده طبيب البلاط ابن زهر في « كتاب الأغذية »، قبل أن يتحوّل نفس الطبق في المطبخ الإسباني إلى رمز من رموز التعايش الخفي بين الأندلس المسلمة وإسبانيا المسيحية. بدا لي من اختيار « طوماس » أنه يحاول أن يضع في صحن واحد جذراً إسبانياً صافياً مع بذرة أندلسية تنبض في اسمه.
وبينما كنا نأكل، سألته بنبرة أقرب إلى الفضول الهادئ:
ـ « ألا يوجد في عائلتك من يروي لك شيئاً عن الماضي؟ جد أو جدة؟ »
تغير وجهه فجأة، كأن السؤال صفعة أيقظت فيه أشجاناً نائمة. شحب لونه، وحدّق في النافذة كمن يستحضر صوراً مدفونة، ثم طلب كأس مشروب لم يكن من عادته أن يطلبه مع الطعام. أدركت في تلك اللحظة أني لمست جرحاً دفيناً، جرحاً صامتاً توارثته أجيال من الموريسكيين الذين عاشوا على هامش الذاكرة الإسبانية. ساد الصمت بيننا، وشعرت بندم ثقيل يتسلل داخلي كالظل. لم أفتح الموضوع بعدها، وعاهدت نفسي على الصمت.
لكن المفاجأة وقعت في اليوم التالي. ونحن نسير معاً نحو المطعم، التفت إلي فجأة وقال بصوت مقتضب، كمن يفرج عن سر رغماً عنه:
« أبي مستعد أن يتحدث معك ».
ثم أسرع يغيّر الموضوع، كأن ما قاله لم يكن سوى زلة لسان خرجت عن غير قصد. (يتبع)