المطالب الشبابية بالمغرب: تطوّر الشكل وضرورة إعمال الديمقراطية التشاركية

توطئة تنظيرية ومنهجية

بداية، قبل تناول المطالب الشبابية التي انطلقت زوبعتها على حين غفلة من كل القوى التي موكول لها تأطير هذه الفئة الاجتماعية من بين فئات أخرى، وإن كانت بوادرها بادية للعيان من خلال الاحتجاجات المطلبية الجهوية والقطاعية ذات طابع خدمي وبأشكال متعددة، والتي لم تكن ذات صبغة سياسية، مثلما كنا نعيشه من أحداث في العهد السابق. فهذه الفئة الشبابية التي تعتبرها المجتمعات والسياسات العمومية رصيدا يجب الاعتناء به ضمانا للمستقبل، وموردا قابلا للتعبئة لمواجهة التحديات الآنية والمستقبلية؛ يجب علينا الإشارة إلى أنها ضرورية لإعادة إنتاج المجتمع، واستمراره رهين بمدى اعتناء من موكول لهم قانونا وسياسيا واجتماعيا تدبير وتأطير الموارد البشرية (مختلف الشرائح الاجتماعية والفئات وفي كل مناحي الحياة) وعلى رأسها الشباب بمختلف مكوناته. وحتى يضمن المجتمع مكانة متقدمة بين المجتمعات الأخرى، وأن يحافظ على وتيرة تطوره حتى لا يسقط ضحية براثين التخلف أو الاندثار، فذلك رهين بمدى إعداده لشبابه الذي ليس بالضرورة مجبرٌ على إعادة إنتاج النظام الاجتماعي القائم، وإنما ليكون مؤهلا لابتكار نظام اجتماعي متقدم أو جديد يمكنه من كسب الرهانات التي سيواجهها، ليكون خير خلف لأحسن سلف.
وحتى أطرح تصورا عاما، وإن بشكل أولي، سأنطلق من أحداث الواقع لأضع تشخيصا معقولا ومقبولا من طرف مختلف الفاعلين، قد يشكل منطلقا لفهم ما يقع، ولماذا وقع؟ وما هي سبل معالجته؟ وكيفية استثماره؟ لأن الأزمة فرصة علينا اهتبالها واستغلالها (حالة كوفيد، وغيرها وردود فعل المجتمع المغربي ومؤسساته). وسيكون توصيفا للسلوكات، والممارسات، والتنظيرات، من زاوية قراءة استرشادية، سنحول أن تكون باردة ما أمكن، تحتكم إلى بناء معرفي يساعدنا على الإلمام بالجوانب التي ستمكننا من الخروج بخلاصات عامة يمكن استثمارها في التفكير في وضع خطاطات لنجاوز هذه الأزمة وفتح أوراش اشتغال حول أسبابها ومسبباتها من خلال ترتيب الأولويات والانطلاق من الأبسط نحو الأكثر تعقيدا والذي قد يتطلب هندسة مجتمعية أو حكامة جديدتين. ولئن كان من الصعب الاشتغال على سيرورات لا زالت قيد التفاعل والتطور: فإن هذا الطرح هو « تفكير لحظي » أو تفكير بصوت عال عبر نص مكتوب، قد تكمن مشكلته غالبًا في أن الباحث يجد نفسه تحت ضغط تسارع الأحداث، والمغامرة في بناء مجدة المعطيات التي سيعتمدها وإن كانت غير مكتملة أو جزئية إن لم تكن متسمة بالطرافة والتفرد، ناهيك عن ضغط العواطف والميولات التي قد تطغى على التفكير، ولربما الانجذاب نحو منهج إرشادي جراء التسرع أو الإغراء لبناء الأفكار والتصورات. ورغم كل هذا وذاك، سنحاول الاستعانة بالترسانة الفكرية التي يعتمد عليها الباحث في تخليص تفكيره من هذه النزوعات والضغوطات التي قد تغذيها اللحظية والآنية لتوفير ما استطعنا من أعلى درجات الصرامة والنزاهة الفكرية في هذه المحاولة.
وحتى أساعد القارئ على فهم ما أصبو إليه، أدعوه قبل هذا وذاك ألاّ يَنْشدَّ إلى الأمثلة (الوقائع، السلوكات والممارسات، المصطلحات، الخ.) التي قد أوردها للتفسير وبناء الأفكار وطرح التصورات، بقدر ما أدعوه إلى الاهتمام بالأفكار والتصورات التي تحملها وتتضمنها الأمثلة، وأن يتم القياس على دلالاتها أكثر مما هي كذلك. كما أن الاشتغال على مكونات مدونة معطيات ومعلومات مصادرها رقمية، وغالبيتها مبثوثة على وسائل الاتصال الاجتماعية بما تمثله من هشاشة وصعوبة التثبت من المصدر والمرجع معا، فإن الانتباه يجب أن ينشد إلى المضامين ودلالاتها وحجيتها لا إلى وثوقيتها وصحتها. وفق هذه الخطاطة، سأتناول الموضوع أعلاه من خلال العناوين الكبرى التالية التي أريد أن تظل حاضرة في ذهن القارئ على أنها أسئلة لا تراتبية بينها، وإنما هي تنظيم نسقي لمحاور محاولة التفسير ليس إلاّ:
1- مسألة الخدمات الأساسية كانت الشرارة؟
من المفيد الإشارة إلى أن توفير الخدمات الأساسية (الماء الصالح للشرب (وحتى مياه الريّ)، شبكة الصرف الصحي، الصحة والتطبيب، التعليم، الطاقة بمختلف أنواعها ومستوياتها الخاصة والعمومية، النقل والمواصلات، الاتصالات، الخ.) من مؤشرات جودة إطار الحياة من حيث العرض. غير أن الولوج إليها وفق سياسات عمومية تعتمد مبادئ المساواة والإنصاف، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، وحتى الميز الإيجابي سواء على مستوى الفئات والشرائح الاجتماعية أو المجالات الترابية (الجماعة، الإقليم، الجهة) هو الضامن لجودة الحياة نفسها بما ينهض بالتماسك الاجتماعي ويقوي النسيج المجتمعي وروابطه. وهذا ما يجعل المجتمع مجتمعا.
وكلما توفرت جودة إطار الحياة وجودة الحياة، ارتفع مؤشر الرفاهية الاجتماعية، وتطورت سيرورة التنمية البشرية واستدامت، وكانت مختلف مكونات المجتمع قادرة على تحمُّلها والانخراط فيها، لأنها تضمن الاستمتاع والكرامة وتجعل من أفراد المجتمع مواطنين متضامنين كاملي المواطنة؛ وبالتالي مدركين طبيعة التحديات وصعوبة كسب الرهانات، وهكذا سينخرطون بالضرورة بشكل فاعل حفاظا على المكاسب وتثمينها بل وحتى تطويرها وتجويدها.
على ضوء هذه الطرح العام والأساسي، نجد أن الواقع المغربي بكل أوراشه وتحولاته لا يستجيب بصورة عامة لما تم استعراضه. وهو أمر طالما نبهت إليه ليس فقط العديد من الحركات والاحتجاجات محلية وجهوية ووطنية بل إن العديد من الخطب الملكية أشارت إلى ذلك عبر أسئلة وتنبيهات ظلت إلى يومنا هذا:
• إما دون جواب تهيّبا من معالجتها والتصدي لها عملا بالقول المأثور « وكم من حاجة قضيناها بتركها … ».
• أو تلكؤ أصحاب القرار السياسي والمساهمين فيه في الجواب بشكل من الأشكال عنها إما لمشاحنات بيروقراطية أو مزايدات سياسية حتى لا نقول سياسوية.
• أو كان الجواب على مقاس أصحاب القرار والمستفيدين منه دون أن تعم الفائدة الفئات المستهدفة وحتى الأهداف المعلن عنها.
وهناك وقائع راجت في النقاش العمومي لا داعي للعودة إليها تؤكد أحد هذه الوضعيات، وكان آخرها الحرمان من الأضحية بما لها من دلالات في الموروث المغربي.
الوقائع ضمن هذا السؤال-العنوان كثيرة، وغالبيتها اندلعت بداية في المغرب العميق الذي لا زال يعاني من التهميش، ويمكن اعتباره مجالات ترابية منعدمة أو ناقصة التجهيز، إن لم نقل منكوبة كما هو حال منطقة الحوز ونواحيها جراء الزلزال (راجع الإشارة الملكية إلى العدالة الترابية). وهذا تعمق بفعل ما ورثناه عن عهد الحماية (مغرب نافع ومغرب غير نافع)، ولا زلنا نعيشه على مستوى تراب مغربنا رغم الإشارة الملكية إلى أنه يجب أخذ الانتباه على إلى أن مراكش أصبحت وسط التراب المغربي. فهذا الواقع جعل ساكنة هذه المناطق (بما فيها ضواحي المدن، إلى جانب شرائح وفئات اجتماعية أخرى) تشعر وكأنها لم تستفد من خيرات الاستقلال … وهذا التأخر في معالجة هذه التفاوتات الترابية كانت له أعراضه السوسيومجالية والسوسيوسياسية التي شكلت في بعض الفترات التاريخية تحديا للمغرب بل وحجر عثرة أمام تقدمه في البناء الوطني وأمام تنميته. صحيح أنها ليست كلها عوامل داخلية، ولكن كان للتاريخي، والإقليمي أو الجهوي داخليا وخارجيا إلى جانب الدولي (سنتطرق فيما بعد لهذا الجانب) آثاره وتبعاته. ودون داعٍ لتقليب المواجع، والعودة إلى سرد الوقائع إلى جانب لائحة ضحاياها مع أن غالبيتهم كانوا دوما من الشباب (سنفسر هذه الخاصية فيما بعد)، غير أن ما يجب التركيز عليه في هذا الصدد – كما أشرت إليه – هي أن الخدمات الأساسية تهم كل شرائح المجتمع دون استثناء، وإن كان البعض منها يهم فئة أكثر من الأخرى (كالطفولة، الشباب، النساء، وضعية الإعاقة، المسنين).
إن الإجابة عن مطلب توفير الخدمات الأساسية وتلبيته سواء من حيث العرض الكمي أو الولوج النوعي وإعمال العدالة المجالية، هي من ينزع فتيل الانفجارات الاجتماعية، ويخرس أصوات الاحتجاج، ويشجع على انخراط مختلف مكونات المجتمع بشكل تضامني ووفق قيم الإيثار؛ إذ أن تلبية مطالب الفئات الاجتماعية ضامن للأمن والسلم الاجتماعيين. فالقوة الأمنية على اختلاف أنواعها ومكوناتها، وإن كانت ضرورية لحماية المجتمع حين القيام بمختلف أنشطته السياسية، والثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية؛ فإنها غير كافية لاستتباب الأمن والسلم الاجتماعيين وحتى القضاء على الجريمة بل إن الشعور بالأمن أصبح اليوم قيمة القيم لما له من تأثير على صورة البلاد والثقة فيها وفي مؤسساتها، ليس فقط لدى ساكنتها ومواطنيها، ولكن أيضا من طرف الاستثمار الأجنبي والدولي. ذلك أن القوانين التي تسنها الدولة لجلب الاستثمار الخارجي وتوطين الاستثمار الداخلي والدود عنه في الخارج ليست وحدها كافية؛ إذ لا بد من إعمال القوانين واحترامها وإنفاذها بشكل عادل ومتساوٍ بما يعزز قيم المواطنة، ويجعل البلد مرجعا في العلاقات الدولية وصوتا مسموعا يُحترم، ممّا يجعله يتبوأ مكانة رفيعة بين الدول. فهيبة الدولة داخليا وخارجيا يكفلها الاحترام قبل الخوف والخنوع. وهذا ما يقوي الشعور بالانتماء. فاختيار الهوية المغربية ليس وثيقة إدارية أو فرصة اقتصادية أو ريعا، إنه اختيار سيادي لكل مغربي لا ينم عن حرمان أو يُتْمٍ، ولكنه قناعة وممارسة تفهم أن هذا الانتماء قائم في إطار الوفاء بالواجبات والاستمتاع بالحقوق إسوة بمختلف مكونات المجتمع بعيدا عن أية مقايضة أو مساومة، وفي إطار التضامن، والتفهُّم، والتفاهم بعيدا عن منطق المساومة.
وفي هذا الصدد، أشير على سبيل المثال إلى ما حدث في سيرورة إعلان « السكتة القلبية » التي أعتبرها لحظة وطنية بامتياز تشبه في معالمها الأساسية الإعلان عن « مراجعة الدستور » في سياق ما سُمِّي « أحداث الربيع العربي » والذي أحتفظ هنا بالتسمية المغربية لأعراضه « حراك 20 فبراير »، لأنني لا أثق فيه مثل أشباه المفاهيم الأخرى، من قبيل: الفوضى الخلاّقة، الحرب العادلة، الدولة العميقة، نظرية المؤامرة، الخ. ولا أستعمل كسوسيولوجي إلا مصطلحات ومفاهيم قابلة للأجرأة ومسميات تساعدني على توصيف يجعلني قادرا على بناء موضوعية الموضوع الذي أنا بصدده وفهمه (سواء كان واقعا أو ظاهرة أو فئة اجتماعية، الخ.)، وهذا الذي أنا معني به هنا والآن. غير أنني أبقى منفتحا على ما يساعدني في ذلك، وأعتبره ضروريا لإنتاج معرفة علمية حول ما أنا بصدده، وليس معرفة عفوية تستسهل الموضوع، ويستعمل أصحابها سلاحهم المفضل في مناهضة الفكر عبر التلويح بتواطؤ المعرفة والسلطة دون اعتماد على العلوم الاجتماعية (السوسيولوجيا التاريخية في تحليل ديناميات بناء الدولة، مثلا). إنني أستغل ما أعتبره مفيدا في بناء صرامتي العلمية [كسوسيولوجي مغربي، وهذه ميزة المدرسة المغربية في السوسيولوجيا والعلوم المرتبطة بها التي أنتمي إليها، والتي تقوم على الاستقلالية، النزاهة، الديموقراطية، والانخراط، وفهمي لحرية الرأي والتعبير، والمسؤولية الأكاديمية والمغربية؛ والذي يجب أن ينخرط في المنطق العلمي لمن أشترك معهم في الحقل المعرفي كونيا دون تبعية لهم أو لتيارهم بل كفاعل فيه، عملا بأن الاقتراض والتشارك هو ما يكسب للحقل المعرفي (أي حقل معرفي كان) جدارته وأصالته، وأن المعرفة التي لا انتماء لها تبقى معرفة يتيمة أو لقيطة.
ودعوني أبدأ بهذه الواقعة كمثال، لإبراز موقف رسمي من سلطة المعرفة، والذي يرغب في الاستعاضة عنها بمعرفة السلطة. يتعلق الأمر بمجموعة دراسات وأبحاث نشرها باللغة الفرنسية مركز الدراسات والأبحاث الديموغرافية التابع للمندوبية السامية للتخطيط في مؤلف تناول موضوع الفقر في المغرب نهاية الثمانينيات ليصطدم بقرار المنع (؟!). وبدأ حوله نقاش سري ثم خافت، وما فتئ أن تحول إلى شائعة فنقاش عمومي حول صدقية الدراسة من عدمها، خاصة وأن أصحابها باحثون مغاربة، وكانوا من أطر المؤسسة التي موكول لها ضمن اختصاصاتها توفير معطيات كمية ونوعية حول المجتمع المغربي عبر دراسات وأبحاث تعتمدها مختلف مكونات الدولة والفاعلين داخل المجتمع المغربي في مختلف أنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية والفكرية بمختلف تمظهراتها. وقد كان عنوانها الأصلي « الفقر في المغرب » إلا أن بعض الجهات المسؤولة في المغرب (وقد أجمعت مختلف الأطراف على أنها أم الوزارات آنذاك، وزارة الداخلية) حاولت منع نشرها لدرجة أن أوائل الذين اطلعوا عليها كان عبر نسخها وكأنها منشور سري. وتطلب الأمر وقتا طويلا لنشرها تحت عنوان POPULATIONS VULNERABLES: Profil socio-démographique et répartition. Publication Le Centre d’Etudes et de Recherches Démographiques. وكان ذلك سنة 1997. وقد كانت الدراسة مدخلا مع دراسات أخرى أعد إحداها البنك الدولي قبل ذلك إلى الخروج نحو المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي شكلت مبادرة رائدة في انطلاقتها على المستوى العالمي. وننتظر أن يتم تفعيل ما أخبرنا به وزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار ما أعلنه بُعَيْد تعيينه أن الأطر الجامعية ستشكل لاحقا موارد الخبرة الوطنية التي يجب تعبئتها، لكنه اختار وضع هيئة وصية على الجامعة دون نقاش مع هذه الأطر الذي دغدغ أحلامها وأيقظ رغبتها بهكذا تصريح. في حين اختار الوزير السابق الهجرة بعد أن عمل على عرقلة هجرة الأطر والطلبة الباحثين.
ومن نافلة القول، الإشارة إلى أن الحوار الوطني لإعداد التراب الذي أطلقه العاهل محمد السادس في بداية العهد الجديد، والذي اعتبرته هيئة الأمم المتحدة عملية رائدة وجريئة. ويمكن اعتباره من بين ركائز ما اصطلح على تسميته بالانتقال الديموقراطي الذي فتح مع الحكومة التي قادها المرحوم عبد الرحمان اليوسفي أوراشا جديدة لإنجاز المشروع الحداثي الديموقراطي والذي أنعش آمالا كبيرة، خاصة مع تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة وما صدر عنها من توصيات تم رفعها للعاهل المغربي، إلى جانب الإعلان الملكي على أن « الاختيار الديموقراطي لا رجعة فيه ». غير أن عراقيل مختلفة ساهمت في ركود مياه التغيير إلى أن جاء حراك 20 فبراير الذي أثمر دستور 2011 والذي كان أول إنجاز دستوري مغربي في تاريخنا المعاصر بعد المحاولات والانتكاسات الدستورية منذ نهايات القرن 19 وقبيل إعلان الحماية وتجزيئ التراب المغربي الذي لا زلنا نصارع من أجل الحصول على اعتراف دولي به.
الملاحظة الأولى لهذا السؤال-العنوان، هي أن مسألة الخدمات الأساسية هو أن الدولة وحكوماتنا المتعاقبة تأخرت كثيرا في تقديم أجوبة كمية ونوعية. لا ننكر أن هنا تطور في تلبية حاجيات الموطنين والإجابة عن انتظاراتهم، لكن بعض الجهات من بين صناع الفضاءات الحضرية (من قطاع عمومية وخاص، وهيئات منتخبة) استغلت فجوات ونقائص القوانين المتعلقة بالتهيئة والتعمير وأفسدت الأوراش التي أفرزت تشوهات حضرية ومعمارية، كما أنها تعاملت بانتقائية مع الفئات المستهدفة بل إنها تعاملت خارج منطق الخطاب التوجيهي لجلالة الملك عند إطلاق الحوار الوطني لإعداد التراب. كما أن هناك من اعتبر المسؤولية (وحتى التمثيلية) غنيمة عليه الاستفادة منها إلى درجة أن عض القطاعات والأوراش تحولت إلى ريع شخصي أو عائلي تحت غطاءات مختلفة … لدرجة أن القانون أصبح سيف ديموقليس فوق رؤوس المواطنين والمطالبين بحقوقهم أو المنددين بهكذا سلوكات وممارسات.
الملاحظة الثانية: إن الأوراش المفتوحة والمعلن عنها المتعلقة بهذه الخدمات الأساسية، جاءت في سياق أشعر المواطن وكأنه غير معني بها، سواء من حيث الأولويات المنتظر تلبيتها أو من حيث الولوج مجاليا. كما أن هناك تقهقرا في عدد من الخدمات الحيوية ضمن هذه الخدمات الأساسية لأسباب مختلفة: منها ما هو مرتبط بالصيانة والتدبير وبالاستمرار بوتيرة تستجيب للتطورات السكانية والعمرانية، أو تعود للبرمجة إما للطبيعة الحكامة، أو لمشكلة الموارد وتعبئتها، الخ. وهو ما جعل البعض يرى في هذه التذبذبات والتفاوتات في النهوض بهذه الخدمات وتوزيعها مجاليا حيفا وتهميشا بل نوعا من عدم الاعتراف بأهليته وأحقيته. إن ما لم يعيه صناع المدينة والمعنيون بقضايا السكنى والسكان هو أن مطلب الحق في المدينة الذي تحول مع العولمة إلى حق في التمدّن على المستوى العالمي، ولم يتفهمه القائمون على تدبير هذه الخدمات على اعتبار أنها أساس وجوهر التمدن (السكن، العمل، النقل والاتصال، الترويح)، وهو ما أكد عليه الميثاق الوطني لإعداد التراب والتعمير بل وحيّنته مخرجات الحوار الوطني حول سياسة المدينة. الملاحظة الثالثة والأخيرة: إن هذه الخدمات الأساسية، خاصة الصحة والتعليم اللذين كانا موضوعا الاحتجاج، يمكننا القول بأنه بالرغم من المجهودات المبذولة على مستوى التكوين والتأطير وتوفير الخدمات في إطار السياسة الجهوية القائمة على اللاتمركز واللاتركيز المعلنة منذ سنوات، فإن المنطق التدبيري لهذه الجهود والأوراش لم يعرف تفعيلا لهذه السياسة الجهوية؛ حيث أن الجهات – كما تم التبشير به – لم تحصل في آنه على الموارد المخصصة للمهام التي أنيطت بها، ولم يواكب ذلك تكوين للموارد البشرية أو تأهيلها وضخ موارد بشرية كفيلة بحجم وثقل المهام. إلى جانب ذلك لم تتم إعادة النظر في الحكامة الجهوية؛ حيث ظلت القرارات متمركزة في أيدي ممثلي وزارة الداخلية.
هذا بشكل مقتضب ما تعلق بهذا السؤال-العنوان. ولئن كنا نلاحظ أن هناك تغيرا في مظهر التجمعات السكنية من خلال ظهور تجمعات سكنية أو أقطاب حضرية مدارية جديدة، فإن الساكنة لم تشعر بالاستفادة منها بشكل جيد. ذلك أن العديد من عمليات إعادة الإسكان وإن قضت على السكن غير اللائق، فإنها عمقت مؤشرات العيش غير اللائق لدرجة أن النسيج الاجتماعي لم يتم الاهتمام به من حيث الروابط السوسيومجالية وعلى رأسها عوامل الهوية الترابية للحي (الجوار والعلاقات الإنسانية)، القرب، والاستقرار في نمط العيش، والشغل … ناهيك عن الولوج إلى القرض للاستفادة من هذا البرنامج. فالعديد من المرحلين اعتبروا لهذه الأسباب ولأخرى، أن هذا السكن اللائق عقابا أكثر من ترقية اجتماعية. فقد تم تجميعهم في أحياء وأشباه مدن بعيدة عن مناطق الشغل أو حيث يزاولون حرفهم أو يعملون. وهو ما جعلها مدنا للنوم فقط، وحولت حياتهم إلى تنقل بندولي بين حي سكناهم ومكان عملهم، وهو ما له أثر كبير على معيشهم اليومي. إنها برامج وأوراش كان فيها بعد تدبير الجانب الاجتماعي ضعيفا إن لم يكن لا مفكرا فيه بتاتا.
سنرى بعد هذا الاستعراض السؤالَ-العنوانَ المتعلق بالسياسات العمومية والقطاعية والممارسات السياسية.

 

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *