هذا الموريسكي .. سر المخطوط الناجي (2)

07 أكتوبر 2025 - 09:35

وجدتُ « طوماس مولاي عبد الله » عند باب محطة المترو، يبتسم ابتسامة من يعرف أنني على وشك دخول زمن آخر. أشار إلى يافطة باب المحطة قائلاً:
ـ « ها أنت وصلت إلى تطوان… دون أن تغادر مدريد! » كان يقصد « حي تطوان »، وأضاف باسماً: « أنا تطواني مثلك »، يقصد أنه ولد بذلك الحي.


لم يكن الحي عادياً، فهو من أكبر أحياء مدريد، وهو يذكر بملحمة أولئك الموريسكيين الذين طردوا من غرناطة، وأعادوا بناء تطوان حجراً حجراً، حتى غدت تُعرف بـ « ابنة غرناطة ». غدت تطوان آنذاك ملاذاً وامتداداً، حيث تسرّبت حضارة الأندلس إلى جدرانها وأسواقها، لتصبح شاهداً على أن الطرد لم يمحُ الذاكرة بل أعاد تشكيلها. وعندما أُطلق اسم تطوان على حي في مدريد بعد قرون، بدا كأن التاريخ يصرّ على أن يربط بين المدن الثلاث: غرناطة المطرودة، تطوان الناهضة، ومدريد الحاضنة.
وهنا تسرّبت إلى ذهني مفارقة أخرى: فمدريد نفسها ليست غريبة عن الأندلس؛ إنها وُلدت على يد الأمير الأندلسي محمد الأول في القرن التاسع الميلادي. ومنذ ذلك الحين ظل اسمها العربي شاهداً على جذور لا يمكن محوها.
أحسست ونحن نعبر أزقة « حي تطوان » أنني في مدينة تحمل في عمقها بصمتين موريسكيتين: تطوان التي تذكّر بدموع المنفى، ومدريد التي تفضح أصولها الأندلسية حتى وهي تتزيّا بزيّ عاصمة أوروبية حديثة. كأن المكان كله يوشوش: « إنكم تمشون فوق أرض ما زالت تسكنها روح الأندلس ».
بدأ الليل يهبط ببطء على مدريد كستارة مسرح تُمهّد لعرض جديد. كأنني، بخطواتي الأولى خارج المحطة، دخلت ممراً سرياً يقود إلى تاريخ آخر. حين وصلنا إلى بيت أسرته، استقبلتنا وجوه تحمل ملامح متشابكة، كفسيفساء الأندلس التي جمعت العربي والقوطي والأمازيغي.
كان الأب العجوز يحمل في ملامحه وقارَ الأزمنة الخالية، كصفحة من تاريخٍ لم يُطوَ بعد. أما الأم، فابتسامتها الساكنة تُذكِّر بظلّ نوافذ قصر الحمراء حين يلامسها الغروب، ابتسامةٌ جمعت بين حُزن البقاء وجلال الفقد. في وجهها بقايا جمال غابر يجاهد الزمن كي لا يُمحى. وأما الابنة الكبرى والحفيدة، فكان في شعرهما الأشقر وعيونهما الخضراوين صفاءُ نبع أندلسيٍّ ينعكس فيه الزيتون والسماء، كأنّ الطفولتين تشربان من ذاكرةٍ واحدةٍ لم تعرف النسيان.
قلت في نفسي: « لقد دخل الجمال هذا البيت، أغلق الباب خلفه، وأخفى المفتاح في أطلال مدينة الزهراء ».
حين جلسنا، قال طوماس لوالده وهو ينظر إلي:
ـ « نادِه باسمه العائلي، ففي اسمه الشخصي حرف العين ».
ابتسمت وقلت: « بل وحتى اسمك العائلي فيه حرف العين »!.
ضحك والده، لكن خلف الضحكة بقي أثر عقدة عتيقة، كأن العين حرف يفضح ما هو مخبوء. وكان طوماس في الجامعة، يقول إن اسمه العائلي هو « مولاي »، وليس « مولاي عبدالله »، تفادياً للتلفظ بحرف يشكل له عقدة جينيالوجية.
بعد لحظة صمت، قال الرجل العجوز بصوت بطيء:
ـ « اسمي مانويل، ولكن عندي اسم آخر هو عبد الرحمن، وهذا الاسم لم ينقطع في أسرتنا ».
سألته: « ولماذا عبد الرحمن؟ »
ابتسم كمن يروي حكاية مقدسة:
ـ « لأن عبد الرحمن الداخل أسّس الإمارة الأموية، وعبد الرحمن الأوسط أرسى أسس الحضارة الأندلسية، وعبد الرحمن الناصر جعل من قرطبة أرض الخلافة ».
ثم أشار إلى حفيدته:
ـ « Aurora في المدرسة، أما هنا في البيت فهي صبح ».
ابتسمتُ وقد قفزت إلى ذاكرتي صورة « صبح البشكنجية »، سيدة البلاط الأموي في القرن العاشر، التي جمعت بين الجمال والذكاء والسلطة، في زمنٍ كانت فيه أوروبا تضع النساء في عتمة الأديرة. لازالت أشهر علبة مجوهرات في متحف « اللوفر » إلى اليوم تستحضر ذكراها.
روى لي الرجل العجوز بعض الطقوس التي تحافظ أسرته عليها، وسألني إن كانت إسلامية. أجبته:
ـ « نعم، لكنها مشوبة بالبدع. فمنذ القرن السادس عشر انقطع الفقهاء عن إسبانيا، وحين يغيب فقه النوازل الذي ينير للناس طريقهم، تتسرب البدع إلى التقاليد حتى تزيح الأصل ».
هز رأسه بتفهم، ثم سألني:
ـ « هل الفقه هو الذي يسمى بالإسبانية La jurisprudencia؟ »
قلت:  » قريب، لكنه ليس نفسه. فالمفاهيم حين تُغترب عن دينها، تفقد روحها، كما يفقد الغريب لسانه حين يُجبر على لغة أخرى ».
هزَّ العجوزُ رأسَه بتفهمٍ عميق، وكأنَّه استعاد في تلك اللحظة صدى قرونٍ من الغياب. ساد صمتٌ قصير، لم يقطعه إلا صوتُ الأكواب حين وُضعت على الطاولة الخشبية العتيقة.
قدّمت الجدةُ والحفيدةُ القهوةَ مصحوبةً ببعض الحلوى، وكانت المفاجأة أن ما وضعتاه أمامنا لم يكن غريباً عليّ: las almojábanas، التي نسمّيها نحن « المجبَّنات »؛ تلك الحلوى الأندلسية التي تُحضَّر بالجبن والعسل، وقد أفاض ابن رزين في وصفها في كتابه « فضلات الخوان ».
نظرتُ إلى الصينية، فخيّل إليَّ أنّ التاريخ قد خرج من كتبه وجلس أمامي؛ نفس العجينة التي عبرت البحر في حقائب الموريسكيين، ونفس الرائحة التي قاومت النسيان، تحفظ ما نسيه الفقه وما رسخ في الوجدان. كم راودني ذلك الشوق الطفولي إلى « المجبّنات » قبيل الإفطار في رمضان، حين كانت رائحتها تتسلّل من نوافذ المنازل العتيقة في دروب تطوان الأندلسية، فتوقظ في القلب ذاكرةً لا تزال دافئة برائحة الجبن والعسل.
كانت الجدة تُقدّمها بابتسامةٍ فيها مهابة الزمن، والحفيدةُ تُقلّد حركتها برشاقةٍ تذكّر بوراثةٍ أعمق من الدم: وراثة الذوق والذاكرة.
عندها أدركتُ أنّ ما ينقذه الناس من الضياع ليس الكتب وحدها، بل العادة التي تصير ذاكرةً، والمائدة التي تحفظ التاريخ حين يصمت المؤرخون.
ساد صمت قصير، تبادل خلاله طوماس ووالده نظرات مبهمة. أحسست أنني ألامس سراً موريسكياً عميقاً: عائلة تعيش بين اسمين، بين طقس ظاهر وآخر مخبوء، على غرار آلاف الموريسكيين الذين مارسوا التقية خوفاً من محاكم التفتيش، وحافظوا على جذوة الإيمان في السر كما يُخبَّأ الجمر تحت الرماد.
فجأة غادر العجوز الصالون ثم عاد بعد لحظات يحمل مجلّداً ضخماً، غلافه من جلدٍ بُنّيّ متآكل بفعل الزمن، أوراقه صفراء تفوح منها رائحة تشبه مكنونات خزانة جامع القرويين. حين وضعه أمامي، أحسستُ أنني لا أفتح كتاباً بل أفتح باباً نجا من النار. حكى لي
كيف هرَّبه جدّه الأكبر من ساحة « باب الرملة  » بغرناطة يوم اشتعلت السماء بوهجٍ يشبه القيامة. كانت الساحة تغصّ بالمجلدات، والرياح تنثر رمادها فوق سطوح غرناطة. هناك، في ذلك اليوم المشهود من سنة 1502، وقف الكاردينال « ثيسنيروس » Cisneros يتأمّل النار وهي تبتلع ذاكرة أمّة، وثماني قرون من تراث الإسلام. نفائس من كتب ابن رشد وابن حزم وغيرهما ضاعت إلى الأبد. وقد ترك لنا راهب حضر تلك المحرقة هو « غوميس دي كاسترو »، شهادة ظلّت تلسع ضمير التاريخ: « أمرَ الكاردينال بإحراق جميع الكتب العربية المليئة بالأباطيل والضلالات في ساحة غرناطة، لتتطهّر المدينة من سموم الهرطقة ».
كم بدتْ له « الهرطقة » حينها أعظم من الحكمة، و »النار » أقدس من الحبر!
كيف نجح جدّ سلالة مولاي عبد الله في النجاة بنفسه وبهذا المخطوط الذي انساب خفيةً بين الأيدي المبللة بالخوف، ذلك ما سأحاول أن أبحث عنه، حتى لو لم أجد له جواباً.
رفعتُ رأسي إلى العجوز وقلتُ بصوتٍ خافت يحمل ارتجافاً خفياً:
ــ « هذا ليس كتاباً، هذا حياة كاملة. »
ابتسم ابتسامةً عميقة، وفي عينيه ومضةُ رجاءٍ وشيءٌ من الاطمئنان، ثم قال بنبرةٍ واثقةٍ أقرب إلى الوصية:
ــ « إذن… سرّ حياتنا بين يديك ».
(يتبع)

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *