وقفة مع الخطاب الملكي أمام البرلمان يوم 10 أكتوبر 2025 في ضوء مطالب جيل زد المغربي

12 أكتوبر 2025 - 19:11

لرصد مدى تجاوب الخطاب الملكي أمام البرلمان، يوم 10 أكتوبر 2025، مع مطالب حراك جيل زد، سنضع مضمونه وشكله في مواجهة الوثيقة المطلبية التي صاغها الشباب أنفسهم. ومن خلال هذه المقارنة، يمكن تصنيف استجابة المؤسسة الملكية إلى ثلاثة مستويات متمايزة، تكشف طبيعة المقاربة التي اختارها القصر في تعامله مع الحراك، وهي: استجابة عالية تستوعب المبدأ دون كسر النسق، واستجابة متوسطة تكتفي بالانتقاء الخطابي، واستجابة متدنية أو منعدمة تؤجّل المطلب أو تقصيه.

هذا التصنيف لا يروم قياس « النوايا السياسية » كما تفعل العلوم السياسية، بل يقيس « الفعل الخطابي »، بوصفه ممارسة تداولية تكشف، عبر ما يُقال وما يُسكَت عنه، كيف يحدّد الفاعل السياسي الأول في البلاد حدوده الرمزية في التفاعل مع المطالب، بين الاستيعاب والانتقاء والإرجاء، في إطار توازنٍ دقيقٍ بين اللغة والسلطة.

أولا: « استيعاب المبدأ دون كسر النسق » كاستجابة عالية:
يشمل هذا المستوى المطالبَ التي حظيت بأعلى درجاتٍ من التجاوب في الخطاب الملكي، حيث يرتبط معظمها بالمجالين الاجتماعي والمؤسسي، ذوَي الطابع التنموي:
فقد حلّ في مقدمتها مطلب العدالة الاجتماعية والمجالية، والذي اعتُبر في الخطاب « توجّهًا استراتيجيًا » و »رهانًا مصيريًا »، بما يوحي برغبةٍ في إعادة تعريف النموذج التنموي المغربي، على أسس تصحيحية، تتجاوز البعد الاقتصادي، إلى أفقٍ قيمي وأخلاقي.
هذه الإشارة ليست مجرد إعلان نوايا تنموية، بل يمكن أن نلتقطها كتحول نوعي في الخطاب الرسمي، نحو إعادة تموضعه في فضاء العدالة الرمزية، بما ينسجم مع روح مطالب جيل زد، الساعية إلى إنصافٍ اجتماعي ومجالي، يعيد الاعتبار للمواطن، بوصفه محور التنمية لا مجرد مستفيد منها.
وقد برز في الإطار نفسه، مطلب الشفافية والتواصل مع المواطنين، كأوضح صور التجاوب وأكثرها مباشرة. فقد دعا الملك بوضوح البرلمانَ والأحزاب والإعلام والمجتمع المدني إلى تأطير المواطنين، والتعريف بالمبادرات العمومية. وهي دعوة تحمل دلالة مزدوجة: اعترافًا ضمنيًا بوجود فجوة تواصل (وثقة) بين الدولة والمجتمع، ومحاولةً لردمها عبر انفتاحٍ مؤسسي محسوب.
بهذا المعنى، يمكن القول إن الخطاب الملكي قد تبنّى جوهر مطالب الحراك دون أن يشير إليه، وعبّر عن إرادةٍ في الاستيعاب لا في الاعتراف، في ما يمكن تسميته بـ استراتيجية « الاحتواء الأخلاقي »: أي الاستجابة من حيث المبدأ، دون ترجمتها إلى التزاماتٍ عملية محددة.
إنها استجابة تُهدئ من روع المزاج الوطني العام، وتعيد ضبط إيقاع التفاعل الداخلي، لكنها لا تصل إلى مستوى تغيير القواعد العميقة لعلاقة المواطن بالدولة.

ثانيا: استيعاب الانتقاء في حدود النسق كاستجابة متوسطة:
يشمل هذا المستوى المطالب التي تناولها الخطاب الملكي بلغةٍ إصلاحية عامة، دون أن يترجمها إلى التزاماتٍ مؤسسية واضحة. وهي تمثل ما يمكن تسميته بـ « المنطقة البينية » التي تجيد المؤسسة الملكية التحرك داخلها: مساحة الاعتراف بالخلل دون المساس بجذره البنيوي.
فقد تطرّق الخطاب، ضمنيا، إلى ضرورة محاربة الفساد الإداري والريع، عبر التأكيد على « ضرورة محاربة الممارسات التي تُعيق النجاعة وتُبدّد الجهد والاستثمار العمومي ». غير أن هذا التناول ظل في حدود البلاغة الإصلاحية، دون أن يُرفَق بآلياتٍ أو مساطر محاسبة واضحة. إنه الأسلوب الذي يجمع بين « تطهيرية اللغة » و »بيروقراطية الأداة »: خطابٌ يُدين الفساد من حيث المبدأ، لكنه لا يفتح الباب لمساءلته من حيث الفعل.
وفي السياق ذاته، ورد مطلب إصلاح التعليم والتكوين والتشغيل من زاويةٍ ديناميكية تنموية، لا من واجهة إصلاحية هيكلية. فاكتفى الخطاب بتكرار العناوين الكبرى: « فرص الشغل والتعليم والصحة »، وهي مفردات مألوفة في القاموس الرسمي، مع أنها تكتسب، هذه المرة، حمولة رمزية جديدة، حين تُستحضر في سياق أزمة اجتماعية مفتوحة.
أما الحديث عن « الحق في الصحة والرعاية الاجتماعية »، فقد أُدرج ضمن أولويات التنمية، دون أن يُعالَج بوصفه أزمة ثقة مواطِنية، أو حقًا مُلحًا من حقوق المواطن. فتم التعامل مع القطاع الصحي كـ « مجالٍ من مجالات الاستثمار العمومي »، لا كأحد أعمدة العقد الاجتماعي الجديد، مما يجعل تلك الاستجابة أقرب إلى النهج التقني منها إلى المقاربة الأخلاقية.
وفي محور محاسبة النخب السياسية والإدارية، جاءت الدعوة إلى النزاهة مقرونةً بالخاتمة القرآنية: « فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره… ». وهي إشارة رمزية قوية في بعدها الأخلاقي، لكنها تفتقر إلى مضمونٍ مؤسساتي أو آليةٍ تنفيذية، فتحولت بذلك من استجابة رقابية إلى نبرة وعظية، تُذكّر ولا تُلزم.
أما بخصوص دمقرطة القرار التنموي وإشراك المجتمع المدني، فقد تحدث الخطاب عن « تعبئة الجميع » و »تكامل الفاعلين »، وهي عبارات توحي بانفتاحٍ مبدئي، لكنها لا تتجاوز حدود الخطاب. فلا وجود لآليات إشراك جديدة، ولا اعترافٍ بأن ضعف المشاركة المجتمعية هو أحد جذور الأزمة البنيوية.
وبناءً على ذلك، يمكن القول إن هذه المطالب جميعها تشترك في سمةٍ واحدة: تم استيعابها جزئيًا داخل الخطاب، لكن بعد تفريغها من طابعها الاحتجاجي، وتحويلها إلى عناوين إدارية.
وهكذا، جرى تحويل الزخم الشعبي إلى نوايا تنموية مضبوطة، ضمن آليات تدبير كلاسيكية.. أي أن الدولة، تكون بذلك قد استجابت بلغة التغيير، لكنها أبقت على منطق الثبات.

ثالثا: « إيثار الإرجاء السياسي » كاستجابة متدنية أو منعدمة:
في هذا المستوى تتراكم المطالب ذات الطبيعة السياسية المباشرة، أي تلك التي تلامس بنية السلطة نفسها وتمتح من سؤال الشرعية الرمزية للدولة. وهنا، اختار الخطاب الملكي لغة الصمت المحسوب، متفاديًا الخوض في هذه المنطقة الحساسة، أو التورط في أي إقرارٍ قد يُفهم باعتباره اعترافًا بخللٍ في التوازنات الكبرى.
ففي الوقت الذي كان يأمل فيه حراك جيل زد أن يُعترف به، كمكوّنٍ شرعي جديد في المشهد الوطني، تجاهل الخطاب ذكره تمامًا. لم يسقط اسمه من نص الخطاب سهوًا، بل تم إقصاؤه وعيا وقصدًا، حفاظا على احتكار الدولة لتعريف ما يُعتبر « حراكًا شرعيًا »، كما كان الشأن في حالة 20 فبراير، وما يُصنَّف في خانة « الاحتجاجات العابرة »، كما يجرى التعاطي الآن مع جيل زد رسميًا.
إنه « صمت سيادي » بامتياز، يهدف إلى ضبط حدود المشروعية الاجتماعية، قبل أن تتحوّل إلى شرعية سياسية.
أما مطلب الاعتراف بالأزمة السياسية والأخلاقية التي يعيشها التدبير العمومي، فقد ووجه بتبنٍّ مغايرٍ تمامًا: إذ اختار الخطاب أن يتحدث عن « المغرب الصاعد »، مقدّمًا منطق الاستمرارية على القطيعة، والتحفيز على النقد، والدينامية على الأزمة. كانت تلك محاولة واعية لإعادة تأويل الواقع، بدل مساءلته في أفق تجاوزه.. أي تحويل التحدي إلى سردية نجاحٍ مستمرة، لا إلى أزمةٍ تستدعي القطيعة.
وفي السياق ذاته، جاء مطلب الإصلاح السياسي والمؤسساتي الشامل، كأبرز ما تم تجاوزه في الخطاب: إذ لم يُشر الخطاب بتاتا، لا إلى مراجعةٍ دستورية، ولا إلى إصلاحٍ في بنية التمثيل، أو منظومة السلطة.
يُقرأ هذا الصمت، في السياق المغربي، باعتباره رسالةٍ دقيقة المضمون: « اللحظة السياسية الراهنة ليست لحظة مساءلة المؤسسات، بل لحظة تثبيت الاستقرار وإعادة ترتيب الثقة. » إنها إشارة إلى أن الأولوية اليوم، للفعالية قبل الشرعية، وللتنمية قبل السياسة.
من هذا المنظور، يظهر الخطاب الملكي كجزءٍ من مقاربةٍ استيعابية ثلاثية المستويات: فهو يستجيب بقوة لما لا يهدد بنية السلطة، كالعدالة والشفافية والتنمية. ويستجيب جزئيًا لما يتطلب إصلاحًا إداريًا أو مؤسساتيًا متوسط المدى. ثم يتجاهل تمامًا ما يمس جوهر التمثيل السياسي أو شرعية الحراك ذاته.
بهذا الأسلوب، حافظ الخطاب على منطق الدولة المغربية كما تشكّل تاريخيًا: تهدئة بلا تغيير جذري، واحتواء بلا اعتراف كامل، وإصلاح دون تحوّل نوعي.
ومع كل ذلك، فإن تضمين الخطاب لغةً أكثر قربًا من وعي الشارع، ولو بقدرٍ محسوب، يمثل اعترافًا ضمنيًا بأن جيل زد المغربي هذا، قد نجح في طرح رهان اختباري مفصلي، مفاده ما إذا كان هذا التوازن الدقيق في الخطاب، بين الإصلاح والاستقرار، سيؤسس في الواقع لعقد اجتماعي جديد، أم سيظل مجرّد إدارة ذكية لأزمة مستمرة.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *