حسن الزواوي، باحث في العلوم السياسية
يعتبر الشباب تيمة محورية في الدراسات السوسيولوجية، والتي اهتمت بهذه الفئة الديمغرافية انطلاقا من مقاربتها كفاعل سوسيو-سياسي، حيث ازداد الاهتمام بهذا الموضوع بعد أحداث الربيع العربي التي عرفتها بعض الدول العربية كمصر وتونس. كما أن المغرب قد شهد بدوره ميلاد حركة 20 فبراير، سنة 2011، التي تجاوز سقف مطالبها ما هو اجتماعي واقتصادي لكي يلامس الشق السياسي، وذلك من خلال مطالبتها بضرورة الإصلاح المؤسساتي و »برلمنة » المؤسسة الملكية.
تعكس مركزية المطلب السياسي في أجندة حركة 20 فبراير رغبة الشباب في إعادة تموقعهم داخل المجتمع، كفاعلين يحملون رؤية إصلاحية تَتِم بموجبها بلورة تصور جديد للتغيير السياسي والإصلاح الدستوري بالمغرب، من منطلق يدعم السيادة الشعبية كمصدر وحيد لمشروعية مسلسل دمقرطة المؤسسات السياسية والدستورية بالبلاد. ولعل هذا المعطى يرمز لأهمية « براديغم » الانتقال الديمغرافي كموجه للتحليلات السوسيولوجية التي تركز بالأساس على تفكيك محددات العلاقة السببية الموجودة بين عنصر الانتقال الديمغرافي والتحولات الدستورية والسياسية التي عرفها المغرب منذ سنة 2011.
إن استحضار هذه المعطيات هو بمثابة توضيح موجز لدور الدينامية الديمغرافية في التأثير على تحولات النظام السياسي المغربي التي لم تحظ من قبل بالاهتمام الكافي من طرف المحللين السياسيين، وذلك نظرا لارتهانهم لمقاربات كلاسيكية تركز بشكل كبير على وظائف الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والمهنية، وغيرها من الفاعلين المؤسساتيين دون أن تتوسع في مجال دراستها لتشمل الفاعلين الاجتماعيين والمدنيين. لذا، فإن ما يعرفه المغرب من احتجاجات اجتماعية بقيادة « جيل زد » تندرج ضمن « براديغم » الانتقال الديمغرافي الذي يتميز بقدرته التحليلية على فهم الهوية الثقافية لهذا الجيل، وتفسير محددات التزامه أو اهتمامه بالقضايا الاجتماعية والسياسية.
إن أهم خصائص « جيل زد » هي نشأته في زمن العولمة المُتسم بكثافة التحولات التقنية والرقمنة المتسارعة، التي أسهمت في انفتاحه على العالم الخارجي، واكتساب معارف ثقافية جديدة تتجاوز حدود هويته التقليدية، وتجدر الإشارة إلى أن « جيل زد » يشمل كل الأفراد المزدادين بين عامي 1997 و2012. يتمتع هذا الجيل بمهارات تقنية وفنية تفوق مهارات الأجيال التي سبقته، كما يُعد ارتباطه بوسائل التكنولوجيا الحديثة شيئا مثيرا للاهتمام، نظرا لكون هذا الجيل قد أصبح يعيش في ظل طفرة رقمية وعالم افتراضي، مما منح أفراده الفرصة للإطلاع بشكل واسع على تفاصيل ثقافة عالمية جديدة تحدد إطار اشتغال قواعدها وسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها من وسائل التكنولوجيا الحديثة. لهذا فقد بات استعمال الإنترنيت في عصرنا هذا سلاحا ذا حدين، ذلك لأنه بقدر ما عزز فرص انفتاح أفراد « جيل زد » على التجارب الحضارية الأخرى، أسهم، وفي نفس الوقت، في بروز وعي شقي لديهم بسبب تأثير المقارنة بين أوضاع بلدانهم التي تعيش التخلف بكل تجلياته، وأوضاع الدول المتقدمة التي تزداد ازدهارا وتقدما على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لقد سمحت وسائل التكنولوجيا الرقمية لشباب « جيل زد » الوصول إلى مصادر متنوعة للمعلومات، أغنت رصيدهم الثقافي، مثلما لعبت دورا أساسيا في تحديد طبيعة اهتماماتهم الثقافية والاجتماعية. بحيث أدى اكتسابهم لمعارف جديدة إلى تأطير سلوكهم الاجتماعي، فضلا عن طرق تفاعلهم مع القضايا المحلية والعالمية .بخصوص هذا الموضوع إذن، نستحضر تجربة تعاطف « جيل زد » في الدول الغربية مع القضية الفلسطينية، من خلال تنظيم وقفات احتجاجية على صعيد مجموعة من العواصم، والتي أجبرت حكومات هذه الدول على تغيير مواقفها السياسية بشأن الإبادة الجماعية التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في حق الشعب الفلسطيني بقطاع غزة المحاصر.
انطلاقا مما سبق، يمكن القول بأن احتجاجات « جيل زد » التي تشهدها الحواضر الكبرى بالمغرب منذ أواخر شهر شتنبر من سنة 2025، تندرج ضمن هذا التصور الذي ينطلق من أهمية « براديغم » الانتقال الديمغرافي لفهم طبيعة العلاقة القائمة بين أفراد هذا الجيل ووسائل التكنولوجية الرقمية. فإذا كانت مدونات « فايسبوك » و تغريدات « تويتر »، قد أسهمت في اضطلاع الشباب بدور محوري إبان حراك العشرين من فبراير لسنة 2011، فإن منصة « ديسكورد » قد شكلت فضاء رقميا جديدا يضمن التواصل والنقاش المباشر بداخله بين أفراد « جيل زد »، من أجل رسم استراتيجية جديدة للاحتجاج تجاوز إيقاعها السياسي والاجتماعي مستويات التدبير الأمني والحكومي، الذي أبان عن محدودية منهجيته وسلطوية آلياته.
لقد أبرزت طرق تنظيم احتجاجات حركة « جيل زد » بالمغرب مدى تطور الوعي المدني ونضجه عند فئة الشباب، كما فندت كل الأحكام النمطية عن أفراد هذا الجيل وذلك بكونه غير مبال بقضايا المجتمع ومنغلق على ذاته داخل فقاعة رقمية وعالم افتراضي، إضافة بأنه كائن استهلاكي مهتم فقط باللهو والبحث عن المتعة. وتجدر الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن سقف مطالب هذه الحركة مختلف إلى حد ما، عن تلك التي رفعتها حركة 20 فبراير، والتي طغى عليها، في حينه، الجانب السياسي مقابل هيمنة المطالب الاقتصادية والاجتماعية « لجيل زد »، ناهيك عن قيادة الشباب لاحتجاجات هذا الجيل مع غياب أي تأطير أو مشاركة فعلية لأحزاب أو تنظيمات مدنية وسياسية، عكس حركة 20 فبراير التي، وعلى الرغم من الحضور الوازن لفئة الشباب، فإنها تميزت بمشاركة أحزاب من اليسار والحركات الإسلامية.
لهذا يتبين بأن الاختلاف الموجود بين الحالتين السالفتي الذكر لا يعني غياب نقط مشتركة بينهما، إذ كلاهما يعكس بروز الشباب كفاعل مدني وسياسي، علاوة على تشبثهما بمحاربة الفساد ومحاسبة المسؤولين عن هدر المال العام. وتكشف هذه النقطة بالذات مدى أهمية البعدين الأخلاقي والمدني في تحديد هوية الفعل الاحتجاجي لفئة الشباب، فأهم ما جاءت به مطالب حركة « جيل زد 212 » هو بمثابة تقييم مباشر لعقود من التدبير السياسي والحكومي للشأن العام، وكذا لاستراتيجية التنمية التي أعطت أولوية لمشاريع رياضية كبرى على حساب القطاعات الحيوية، كالصحة والتعليم، باعتبارهما من أبرز مرتكزات الدولة الاجتماعية.
لقد أدى الاستثمار الحكومي في بناء ملاعب رياضية كبرى إلى نتائج عكسية ظهرت مباشرة بعد افتتاح ملعب « الأمير مولاي عبد الله » بالرباط، حيث كان الهدف الخفي، حسب تصورنا، من الاهتمام المتزايد بكرة القدم، هو محاولة كسب الولاء السياسي لفئة الشباب مع جعل الرياضة وسيلة إيديولوجية لتمكين السلطة السياسية من تجديد استراتيجيات الهيمنة والتحكم. لكن العكس هو الذي حدث، حيث قاطع أفراد « جيل زد » بعض مباريات الفريق الوطني، وعبروا بشكل مباشر عن رفضهم لتنظيم كأس العالم مادامت قطاعات الصحة والتعليم أولى بالتمويل العمومي والاهتمام الحكومي.
وبعبارة أخرى، كشف الفعل الاحتجاجي لحركة « جيل زد 212 » عدم تطور مقاربة تدبير الدولة لهكذا فعل، حيث ظلت وفية لمقاربة أمنية أو قمعية عكستها التدخلات العنيفة، والاعتقال التعسفي للمتظاهرين، وضعف احترافية الفاعل الأمني. كما لوحظ أيضا الارتباك الذي وقع لمكونات الأغلبية المكونة للإتلاف الحكومي، إذ وجدت حكومة « عزيز أخنوش » نفسها في تناقض بين خطاباتها السياسية التي ما فتئت تكررها على مسامعنا، عبر الخرجات الإعلامية لبعض الوزراء، مبرزين أهم إنجازاتها الاقتصادية والاجتماعية، وتلك التي ظهرت بعد حراك « جيل زد »، من خلالها تم التعبير عن تفهم أعضاء هذه الحكومة لمطالب الشباب المحتج.
تؤكد هذه العناصر من جديد تخلف السياسة كتصورات والسياسي كفاعل بالمغرب وغياب الاستراتيجيات الاستباقية فيما يخص عمل مؤسسات الدولة، التي ظلت في مجملها وفية لمنطق ارتجالي يتميز بضعف الرؤية، والاكتفاء بحلول ترقيعية تُشوه طرق تنفيذ برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فأزمات قطاعي الصحة والتعليم هي أزمات بنيوية ليست وليدة اللحظة بل ترمز لفشل مشروع دولة ما بعد الاستقلال في لعب دور تنموي، إضافة إلى تضييع الكثير من الوقت في صياغة العديد من التقارير حول كيفية بناء مشروع تنموي بالمغرب، حيث تراكمت الدراسات والتوصيات بدءا بتقرير الخمسينية ووصولا إلى مقتضيات المشروع التنموي الجديد، لكن مع محدودية أثارها الإيجابية على واقع المواطن الذي يعيش اليوم بين مطرقة الخيار النيوليبرالي وسندان السلطوية السياسية.
لقد ظهرت حركة « جيل زد 212″، إذن، لتؤكد من جديد حتمية الإصلاح العميق لبنيات الدولة والنظام السياسي، إذ بالرغم من الزيادة في ميزانية التعليم والصحة والتي كان من المفترض أن تَتم مند عقود، فإن الحل الأمثل يكمن في وجود إرادة سياسية تؤمن بأهمية الديمقراطية، والاستعداد من طرف الفاعلين السياسيين وأصحاب القرار الاستراتيجي بالمغرب لتحمل فاتورة الدمقرطة، وذلك بغية إخراج المغرب من عنق زجاجة السلطوية والتخلف.