أصدر الفنان المغربي حاتم عمور أغنيته الجديدة « بهلوان »، ليضيف إلى مسيرته الغنائية عملا إنسانيا عميقا يعيد من خلاله تعريف مفهوم الأغنية المغربية الحديثة.
في هذا العمل، لا يكتفي عمور بأداء غنائي متميز، بل يقدم رؤية فنية متكاملة تجسد الصراع بين الفرح والحزن، بين البسمة التي تخفي الوجع، والبهجة التي تولد من رحم الألم. إنها أغنية عن الإنسان أولا، عن أولئك الذين يضحكون كي لا ينهاروا، ويضحكون الآخرين بينما يتألمون في صمت، عن الذين يعيشون في زمن صعب، حيث الحرب والحياة القاسية تفرض على الجميع، ولا يقدم لهم أحد بصيص أمل، إلا أنهم يخلقونه بأنفسهم.
في « بهلوان »، يقدم عمور شخصية معقدة، نصف سرواله محارب ونصفه الآخر بهلوان، رمزا للتوازن بين مواجهة الحياة بكل صعوباتها وبين القدرة على إدخال البهجة إلى قلوب الآخرين. هذا البطل، على الرغم من أن أمه مريضة وأن الأوقات صعبة، يواصل القتال يوميا ليضحك الناس، ليخلق ضحكته الخاصة وسط عالم يعاني الجميع فيه. الأغنية تحمل رسالة قوية عن الصبر والمقاومة والتفاؤل، وعن قدرة الإنسان على تحويل الألم الشخصي إلى طاقة إبداعية تصل إلى الآخرين.
يقدم حاتم عمور في هذا العمل عملا متقنا من حيث الكلمة واللحن والتوزيع، إذ تتناغم العناصر الثلاثة في انسجام تام يجعل الأغنية أقرب إلى لوحة موسيقية حية. الكلمات كتبها محمد أمير بصدق فني عال، تعكس صراع الإنسان بين القوة والمرح، بينما جاء اللحن بتوقيع الفنان Lfice، مغربيا أصيلا يحمل نغمة الشجن والأمل في آن واحد. أما التوزيع الموسيقي، فجمع بين الإحساس والاحترافية على يد مراد المدني، الذي تولى أيضا عملية الميكس والماستر بلمسة تقنية عالية الجودة، بينما جاء الإخراج الفني بتوقيع المبدع عصام فوز، الذي نجح في تحويل البعد الدرامي والبصري للأغنية إلى مشاهد آسرة تخاطب الحس الإنساني بعمق.
ويأتي هذا العمل ضمن مشروعه الغنائي الجديد « غي فنان »، حيث تشكل « بهلوان » خامس أغنية في الألبوم، بعد كل من « بسيكولوج »، « الدرب »، « مبروك »، و »كازابلانكا ولا دبي ». من خلال هذا التنوع، يبرز عمور قدرته على مزج الأساليب الموسيقية بروح مغربية معاصرة، ليؤكد أن الألبوم ليس مجرد مجموعة من الأغاني، بل رحلة فنية متكاملة تستكشف جوانب الإنسان في فرحه وحزنه، في واقعه وحلمه.
حاتم عمور، في كل ظهور فني، يثبت أنه واحد من الأصوات المغربية النادرة التي تجمع بين الموهبة والرؤية. فهو فنان لا يكرر نفسه، بل يغامر فنيا في كل تجربة جديدة، يبحث في العمق عن معنى الأغنية ودورها في التعبير عن الذات والإنسان. عرف كيف يحول كل عمل إلى مشروع فني متكامل، يجمع بين الحداثة والأصالة، بين جاذبية الأداء وصدق الإحساس. من خلال رصيده الزاخر بالنجاحات، يظهر عمور كمبدع يؤمن بأن الفن رسالة قبل أن يكون شهرة، وبأن الجمال الحقيقي يكمن في البساطة والصدق، وأن الفن قادر على تحويل الألم والمعاناة إلى تفاؤل وإبداع، ليصبح مصدر أمل للآخرين كما هو للبطل في الأغنية.
من خلال هذا العمل، يقدم عمور تأملا فنيا في الجانب الخفي من النفس البشرية، حيث يصبح القناع رمزا للإنسان المعاصر الذي يخفي آلامه خلف مظاهر البهجة اليومية. الأغنية بهذا المعنى لا تتحدث فقط عن « البهلوان » كمهنة أو صورة فنية، بل كرمز شامل لكل من يعيش التناقض بين الخارج والداخل، بين ما يظهره للعالم وما يخفيه في أعماقه. لذلك، فإن « بهلوان » ليست مجرد أغنية عاطفية، بل نص موسيقي يحمل بعدا فلسفيا وإنسانيا، يدعو إلى التأمل في هشاشة الإنسان وسط عالم يطالبه دوما بأن يبتسم، ويستمد قوته ليواجه الحياة رغم صعوبتها.
على مدى أكثر من عشرين عاما من الإبداع، أثبت حاتم عمور أنه فنان لا يتوقف عند حدود النجاح، بل يسعى إلى تجديد لغته الفنية باستمرار. في « بهلوان »، يظهر نضجه الفني بوضوح، إذ يختار البساطة العميقة على الزخرفة السطحية، ويضع الإحساس في قلب التجربة الموسيقية. هذه الأغنية تؤكد مرة أخرى أن عمور ليس فناناً يبحث عن الشهرة العابرة، بل عن الأثر الباقي، وعن الأغنية التي تُقال لتبقى، وعن الفنان الذي يخلق الأمل في زمن القسوة والمعاناة.
« بهلوان » هي تجربة فنية تعيد الاعتبار للأغنية المغربية الراقية، تلك التي توازن بين الأصالة والمعاصرة، بين التعبير الإنساني والجمال الموسيقي. بهذا العمل، يبرهن حاتم عمور أن الفن الحقيقي لا يحتاج إلى صخب أو مبالغة، بل إلى صدق نابع من الإحساس، وإتقان يلامس الروح قبل الأذن. إنها أغنية تضع المستمع أمام مرآته، وتذكره بأن خلف كل ضحكة حكاية، وخلف كل بهجة جرح لا يُرى، وأن الإنسان قادر على ابتكار بصيص أمله الخاص حتى في أصعب الظروف، وأن الفن قد يكون السلاح الذي يواجه به الحياة.