غضب بالأصفر..

28 نوفمبر 2018 - 14:08

في 2010 ألف ستيفان هيسيل كتابه الذي سيحقق أعلى المبيعات في فرنسا، كان كتابا صغير الحجم، لكن بمفعول برميل ديناميت، سمّاه: « اغضبوا.. ».. صيغة فعل الأمر الحاثة على التمرد جعلت الكتاب قريبا من وظيفة الفكر التي هي تغيير العالم لا تفسيره كما قال ماركس، وككرة الثلج تحول الكتاب إلى إنجيل يقود شبيبة الحركات الاجتماعية الجديدة، بل إن المجموعات التي انتقلت من الاحتجاج الافتراضي إلى الاحتجاج الميداني بإسبانيا ستتوحد تحت اسم مستوحى من كتاب ستيفان هيسيل، فنشأت حركة « الغاضبون »، الأم التي حملت في رحمها جنين حزب « بوديموس ». حين كتب ستيفان هيسيل إنجيل الحركات المناهضة للامبالاة والاستسلام لتغول النيوليبرالية، كان في مأمن من نعته بالشعبوية أو اليسراوية، فهو واحد من محرري الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومقاوم فرنسي سابق ضد الاحتلال النازي وحكومة فيشي العميلة.. وضع كل هذه الرمزية الأخلاقية والتاريخية في خدمة الشباب الغاضب المقصي، في الوقت الذي يحرم قادة « المقاومة » و »الحركة الوطنية » عندنا الشباب حتى من معرفة ما جرى في تلك السنوات الأولى للاحتلال، ومن لم يخرسه ريع المندوبية السامية للمقاومة وجيش التحرير، فهو إما منزو يضمد جراح الخيانات، أو يكتب مذكرات تخفي أكثر مما تظهر.

في فرنسا وسائر أوروبا كانت تحدث بين الفينة والأخرى قبل 2010 احتجاجات وإضرابات وتوترات، أبرزها في 1995، لكنها كانت بنفسٍ فئوي مناهض لإجراءات حكومية معينة، ولا تستهدف عرش الشيطان النيوليبرالي، العاطلون عن العمل يفاضلون بين اليمين الليبرالي ويسار الديمقراطية الاجتماعية حول من منهما الأقدر على خلق مناصب شغل، والمهاجرون يضغطون من أجل سياسة إدماج أكثر إنصافا.

ما فعله كتاب ستيفان هيسيل ذو الاثنتين وثلاثين صفحة هو أنه أعاد ترتيب المشهد الاحتجاجي نحو مناهضة الرأسمالية النيوليبرالية، نحو فضح الميديا المتواطئة، نحو اختصار الصراع بين المسيطرين والمحرومين، كانت ثنائية اليمين واليسار خادعة وقتذاك، فأقسى السياسات النيوليبرالية تمت عبر حكومات محسوبة على اليسار: توني بلير وليونيل جوسبان وكيرهارد شرودر.. من هنا جاء ذلك الشعار المحمل بالدلالات الذي حملته لافتة في ساحة بويرتا ديل سول بمدريد: نحن لسنا يمينا ولسنا يسارا، نحن « التحت » ونواجه الذين في « الفوق ».. لافتة كانت تعيد توجيه البوصلة في اتجاه مواجهة « الهيمنة »، والهيمنة كانت لاقتصاد السوق، لا نحو مجرد تحسين الأوضاع ضمن نسق ينتج تراكم الأرباح والسلط والامتيازات في يد أوليغارشيات عابرة للقارات، ويؤبد الحرمان والإقصاء والحروب والمجاعات وتدمير البيئة. لم تكن صرخات ستيفان هيسيل أو إدغار موران أو جياتري سبيفاك أو حتى سلافوي جيجيك وحدها في المشهد، كانت ثمة تنظيرات أخرى تطبخ في مختبرات صنع الانقلابات الناعمة، من مثل معهد تطبيق استراتيجيات اللاعنف (كانفاس) بصربيا، ومعهد إينشتاين الأمريكي لصاحبة جين شارب، وأكاديميات التغيير على منصات النيت، والتي كانت تقدم تدريبات في كيفيات التخلص من الأنظمة الديكتاتورية، ولكن دون استهداف نظام السوق النيوليبرالي، بل إن الديمقراطية الليبرالية ستشكل إغراء للثوار الجدد في الدول التي توجد خارج الميتروبول من أجل التخلص من حكامها المتسلطين، هكذا نشأت الثورات الملونة في خدمة مستقبل السوق، هكذا بدأ مسلسل تفكيك الكيانات الدولتية الكبرى، فكلما كانت مساحات الدول أصغر كان التحكم أسهل، والإغراق في المديونية أطوع، وتأبيد التبعية أيسر. للأسف، لم تتجاوز النداءات نحو حركة عالمية لمناهضة العولمة النيوليبرالية سقف المتمنيات، وحتى بعض المثقفين الكبار سقطوا في فخ المركزية، وقصروا جهودهم على الدعوة لجبهة أوروبية اجتماعية في مواجهة السياسات النيوليبرالية، ولعل أبرزهم بيير بورديو، بورديو عالم اجتماع فضح بنيات إعادة الإنتاج و »الهابيتوس » وألاعيب الميديا، لم ير المواجهة مع السوق إلا في المركز الأوروبي، وكأن الأطراف يصدق عليها نعت التابع، أي ذلك الذي يتلقى الأوامر دون أن يصدرها كما تقول سبيفاك غايتاري، ومع ذلك يحسب لبورديو أنه تنبأ بما سمّاه ثورة المحافظين، أي إن النيوليبرالية ستبتدع خصمها ليجيش المحرومين بمقولات محافظة منكفئة على الذوات الوطنية الضيقة، وهو ما نشهده للأسف في العالم اليوم، حيث أصبحت دول كانت إلى الأمس القريب نماذج للديمقراطية الناشئة تحت حكم اليمين القومي الشعبوي: الهند والبرازيل والفلبين، ناهيك عن الولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا والمجر…
في المحصلة: يتحكم النيوليبراليون في الاقتصاد العالمي وفي السياسة العالمية وفي مصائر الشعوب، والذين يقودون المواجهة ضدها يجمع بينهم خيط اليمين الشعبوي القومي المتطرف الذي لا تشكل الديمقراطية ولا فلسفة الأنوار أفقا له، فيما اليسار منقسم لفسطاطين: يسار الديمقراطية الاجتماعية المتصالح مع اقتصاد السوق، واليسار الراديكالي الذي يزاحم شعبويي اليمين القومي في ميادين الاحتجاجات ويتأخر عنها في صناديق الاقتراع…

 

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي