إشراقة الميلاد ومعنى المبادرة الملكية

في لحظات مخصوصة من التاريخ، تشرق أنوار لا تُقاس بالزمن ولا تُختزل في الوقائع، بل تُقاس بقدرتها على إعادة ترتيب معنى الوجود الإنساني. ومن هذه اللحظات العظمى ميلاد الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، الذي لم يكن مجرد حدث في سياق تاريخي معين، بل كان فجرًا أطلّ على البشرية كلها، ليبدّل وجه العالم، وليفتح للإنسان أفقًا جديدًا في علاقته بربه ونفسه والآخرين. وفي هذا الأفق المشرق تندرج المبادرة الملكية السامية التي دعا من خلالها سبط النبي، أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس، إلى إحياء ذكرى مرور خمسة عشر قرنًا على ميلاد خير البرية، دعوةً تحمل في جوهرها معاني التجديد، واستعادة الصلة، وبناء الوعي الجماعي على أسس المحبة والرحمة.

إنها مبادرة لا تقف عند حدود الطقس أو التذكير السنوي، بل تحمل قوة رمزية تجعل من الذكرى مدرسة حيّة مفتوحة للأجيال، تُجدّد صلة الأمة بسيرة نبيها، وتعيد إحياء المعنى في زمن يغلب عليه التيه والبحث عن بوصلة. فالملك، وهو من سلالة البيت النبوي، يذكّر المغاربة والعالم بأن الاحتفاء برسول الرحمة ليس استرجاعًا لماضٍ مضى، وإنما هو فعل حضور دائم، واستمداد من نور متجدد، وإعلان بأن الرسالة المحمدية قادرة، في كل عصر، أن تهدي البشرية إلى سواء السبيل.

جوهر هذه المبادرة أن الميلاد النبوي كان، في أصله، ثورة روحية وأخلاقية كبرى، هدفها أن يتحرر الإنسان من أنانيته ومن عبودية ذاته، وأن ينفتح على آفاق التوحيد والعدل والرحمة. فإحياء الذكرى على هذا النحو ليس مجرد احتفاء بالماضي، وإنما هو ترجمة حية لمعنى الرسالة في حاضرنا، وتربية للأجيال على قيم تتجاوز الشكليات لتصل إلى لبّ المقاصد: الحرية الداخلية، محبة الخير، والسمو فوق الأهواء.

ولأن المغرب كان، عبر قرونه، أرضًا مشبعة بمحبة الرسول، فقد جعل من هذه المحبة جوهرًا في هويته الروحية، يتجلى في حفظ كتاب الله، وفي مدارس العلم، وفي أناشيد المديح والسماع، وفي سلوك أجياله. فالمبادرة الملكية تعيد وصل هذه الذاكرة العريقة بالزمن الراهن، وتجعل منها مصدر إشعاع عالمي، يؤكد أن الأمة المغربية، بما تختزنه من وفاء لرسولها، قادرة اليوم أن تقدم للعالم صورة ناصعة عن معنى المحبة النبوية حين تتحول إلى فعل بناء وعطاء.

إن الرسالة التي تحملها هذه المبادرة ليست محصورة في الوطن وحده، بل هي نداء يتجاوز الحدود، دعوة إلى الإنسانية جمعاء أن تستعيد القيم التي بشّر بها الرسول الأكرم، وأن تنهل من معين الرحمة التي بعث بها للعالمين. فالميلاد الذي نحتفي به بعد خمسة عشر قرنًا ليس حدثًا منقطعًا، بل حقيقة ممتدة في الزمن، تُعيد صياغة الأمل وتفتح أمام الإنسان أبواب الطمأنينة والسلام.

هكذا، تتحول المبادرة الملكية إلى فعل بلاغي عظيم، يذكّر الأمة بأن الاحتفال لا يكون بالطقوس وحدها، وإنما بأن نعيد بناء وعينا وقيمنا على ضوء الرسالة المحمدية. فهي مبادرة تلتقي عندها الذاكرة بالتجديد، والروح بالتربية، والحاضر بالمستقبل، وتعلن أن محبة الرسول ليست شعارًا يُرفع، بل هي ميثاق حياة يُترجم في سلوك الأفراد والجماعات.

إنها إشراقة جديدة في تاريخ الأمة، يخطّها جلالة الملك محمد السادس حفظه الله ورعاه، ليؤكد أن المغرب، وهو من معدن النبوة، سيظل وفيًا لرسالته، حارسًا لقيمها، ناشرًا لأنوارها، ومذكّرًا العالم بأن ميلاد الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم سيبقى، مهما تعاقبت القرون، منارة هداية، ونبع رحمة، ورمزًا خالدًا لمعنى الإنسانية في أبهى صورها.

 

 

 

 

 

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *