من المناضلين الجوعى إلى المهندسين الجياع

05 يوليو 2019 - 14:23

حين تهيمن الدولة على الحقل السياسي، يصعب الفصل بين سياستها وسياسة الأحزاب في استشراف الأفق السياسي.

بداية العمل السياسي في المغرب، ارتسمت بالتداخل الكثيف بين الديني والسياسي، أو بين الشرف الديني والزعامة السياسية.

كانت الزاوية تمارس السياسة من خلال خطها الإصلاحي مدعومة بالثقة القوية بين المريد والشيخ، وكان حقل السياسة مفتوحا بين زوايا موالية منتفعة، وأخرى معارضة لبنية الحكم، وأخرى إصلاحية. شكل تعاطي الدولة مع هذه التشكيلات، تراوح بين تقريب الموالي، وممارسة لعبة شد الحبل مع المعارضة لبنية الحكم، والتعامل مع الزوايا الإصلاحية حسب موازين القوى.

مع الاستقلال، أصاب التحديث البنية الحزبية، وحلت معادلة المناضل/الزعيم السياسي محل معادلة الشيخ /المريد، وتطور نسبيا مفهوم البرنامج السياسي والتقرير المذهبي، حيث صار النضال الحزبي محددا أساسيا للانتماء والتوسع والاستقطاب والتموقع السياسي، لاسيما بالنسبة إلى القوى الإصلاحية.

في هذه الفترة، برزت حاجة السلطة إلى نموذج جديد في السياسة، يبني أحزابا موالية على شاكلة الزوايا التي انحسر دورها السياسي بفعل قوة التحديث السياسي، فبرزت مع أول انتخابات تشريعية فكرة الأعيان، وهم أشخاص بشبكة علاقات قرابية أو قبلية أو مالية، يستطيعون تحقيق فوز انتخابي في محيط محدود في الجغرافيا والتعداد السكاني، ينالون تزكية أحزاب قريبة من الدولة، وينتج عن توافر عددهم في أحزاب موالية متعددة، تحقيق وزن انتخابي منافس لوزن القوى الديمقراطية.

فكرة الأعيان تطورت مع الزمن السياسي، لاسيما مع توجه المغرب نحو الصناعة، إذ صاروا يضمون رجال أعمال، دفعهم طموحهم الاقتصادي نحو المشاركة السياسية لتأمين مصالحهم وتوسيعها.

في أواخر حياة الملك الحسن الثاني رحمه الله، وبسبب تصحر الحياة السياسية، اقتضى الإعداد لمرحلة التناوب التوافقي، تشكيل طبقة سياسية جديدة موازية لطبقة سياسيي القوى الديمقراطية. راهنت الفكرة التي أدارها المرحوم مزيان بلفقيه، على الأطر ورجال الأعمال، وبشكل خاص المهندسين، ممن لهم قدر من الاستقامة، وليست لهم سوابق في التملص الضريبي أو عدم الوفاء بمقتضيات الحماية الاجتماعية، وتمت الانعطافة للمهندسين، لاعتبارين: أن الدولة تمتلك رؤيتها وما ينقصها هو رجال أكفاء يحسنون التنفيذ، ثم استنفاذ فكرة الأعيان بحمولتها التقليدية لأغراضها باستنفاذ تجربتها السياسية، وأن التجربة السياسية الجديدة تستدعي شريحة اجتماعية مختلفة في خلفيتها وخبراتها.

لم تسفر هذه التجربة عن شيء، وانتهت كليا مع نهاية تجربة التناوب، ولم تترك انتخابات 2007 فرصة للخيال السياسي لإنتاج فكرة جديدة تدخل عالم السياسة، سوى ما كان من إعادة صياغة الأفكار القديمة، وتغيير التكتيك، لجهة تجميع الأعيان في حزب واحد، وتدبير عمليات الارتحال من وإلى الأحزاب القريبة من الدولة. بدأت ملامح هذه الفكرة تبرز مع قانون الأحزاب، وبشكل خاص، حينما طرحت فكرة التحالفات الحزبية، والتمهيد لبروز حزب الدولة الذي يجمع الأعيان، لكن التجربة الانتخابية، أظهرت مأزق تدبير تناقضات الأعيان، وصعوبة الجمع بين تلبية المصالح وواقع ندرة المواقع. مع تجربة “البام”، ظهر جيل جديد من الأعيان، من المناضلين الجياع، الذين دخلوا التجربة بسقف استدراك ما ضاع في زمن النضال اليساري، فنشأت على هامش التجربة طبقة من رجال الأعمال الجوعى، ساهم تسلقهم الطبقي السريع في التفجر السريع لهذه التجربة، لاسيما بعد ما التبست بظاهرتي العشبة الخضراء والبلطجة السياسية. بعد البلوكاج السياسي، لم تنتج تكتيكات النخب أي تغير في الحقل السياسي، بل أصيبت الرؤية بضبابية كثيفة، فـ”البام”، يعيش أزمته الصدامية، والأحرار الذي قتلت المقاطعة الاقتصادية “مسار ثقته”، لا يعرف كيف يستعيد حركيته.

فكرتان تعاودان الظهور في مسرح السياسة، وتؤشران على أزمتها: توحيد اليسار، والرهان على المهندسين.

توحيد اليسار لاستدعاء مناضلي الأمس، الذين تركوا سفينة الاتحاد بسبب تواطؤات القيادة مع مستهدفي استقلالية القرار الحزبي، وعودة المهندسين، لتأثيث “الأحرار”، الذي أنهكته رحلة الأعيان منه إلى “البام”.

أفق توحيد اليسار منسد، لانعدام الثقة في القيادة المدبرة للعملية، وللتعارض المفصلي بين تقييم المغادرين لسفينة “الاتحاد”، وبين حاجات السلطة، فالمغادرون يريدون استقلال القرار الحزبي، والسلطة تريد دورهم الوظيفي للقيام بما عجز عنه الأعيان.

المهندسون من التقنوقراط الجياع، يرغبون في الاقتراب من مربع السياسة وتقديم الخدمات وتصدر المواقع، لكن مشكلتهم في السياسة، أنهم يصلحون بعد الكسب الانتخابي، وليس قبله، أي يصلحون لتأثيث المواقع وخدمة السياسي، لا لخوض المعارك الانتخابية.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي