"البريوات" أو "السنبوسك"... الأكلة التي وحدت العالم الإسلامي شرقا وغربا

12 أبريل 2022 - 19:00

 تعتبر أكلة « السنبوسك » أو « البريوات » كما يسميها المغاربة، من الأكلات التي لا تخلو منها مناسبة من المناسبات، بل أصبحت اليوم جزءا من الخوان أو لائحة الطعام التي تُقدّمها المطاعم المغربية لزبنائها كنوع من المقبلات.

وهذه الأكلة التي لا يخلو منها بلد من بلدان العالم الإسلامي شرقا وغربا، هي مِنَ الأكلات القلائل المعبّرة باسمها ووصفها ومضمونها، ذكرها الأدباء والفقهاء والرحالة ومؤلفو كُتب الطبخ، حيث نجد الرحالة المغربي الشهير ابن بطّوطة قد أشار إليها في كتابه « تحفة النظار وعجائب الأمصار »، حين تحدث عن عادات أهل الهند في الأكل، ولا غرو في ذلك وبلاد الهند قريبة من منشئها في بلاد فارس.

فالسنبوسة أصل معناها بالفارسية مثلث الشكل، وقد تعددت أسماؤها في المشرق بين السنبوسك أو السنبوج أو السنبوسة أو السنبوسق، وهي كلّها أسماؤها في المشرق، وقُل ما شِئت، ولا حرج، لأنها ليست عربية، واللفظ الأعجمي إذا نُقِل إلى اللغة العربية، يُلْعَب به كيفما اتفق.

 وأما اسمها المتداول في المغرب فهي « البريوات »، ففي لسان العرب برا العود أو السهم نحته وسواه، ومن هذا المعنى نزعم أن شكل البريوات الحاد الرؤوس تشبه رأس القلم أو السهم بعد بريه.

موائد بني العباس

عندما سيطر العرب على بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين، كانت حضارة تلك البلاد حضارة الإمبراطورية البيزنطية والساسانية بفخامتها تمر بمرحلة الغروب وشحوب البريق.

 وقد أخد العرب حين نقلهم لعاصمة الخلافة إلى الشام وبغداد بعد ذلك، نصيبا وافرا ممّا ورثوه من هاتين الحضارتين، فقد فضّلوا اتباع التقاليد الفارسية والبيزنطية في معالجة اللحوم، كما تأثروا بالطبخ الفارسي فأخدوا عنه البارد والحلويات، ودليل ذلك قول الأصمعي: اختصم رومي وفارسي في الطعام فتحاكما بينهما إلى شيخ أكل طعام الخلفاء، فقال: فأما الرومي فذهب بالحشو والأحشاء وأما الفارسي فذهب بالبارد والحلو (ابن قتيبة عيون الأخبار ص 204).

     وقد ذكر الأديب حبيب زيات في استعراضه لكتاب الطباخة للفقيه بن المبرد، حين تحدث عن فنّ الطبخ وإصلاح الأطعمة في الإسلام، دخول عدد من الأطعمة من الفرس والروم على المسلمين بعد الفتوحات الإسلامية ونقل مركز الخلافة العباسية إلى ما بين النهرين مجال الحضارة الفارسية، حيث ذكر غلبة فن الطبخ الفارسي على الموائد العباسية ومنها « السنبوسج ».

ومن الإشارات الأولى  لهده الأكلة، ما أورده المسعودي في الجزء الرابع من كتابه مروج الذهب، ما قيل بين يدي المستكفي الخليفة العباسي المتوفي سنة 337هـ/ 949م في وصف « سنبوسج »،  قصيدة لإسحاق بن إبراهيم الموصلي في وصفه « سنبوسج »:

يا سائلي عن أطيب الطعام.. سألت عنه أبصر الأنام

أعمد إلى اللحم اللطيف الأحمر.. فدقه بالشحم غير مكثر

واطرح عليه بصلا مدورا.. وكرنبا رطبا جنيا أخضرا

والق السذاب بعده موفرا.. ودار صيني وكف كزبرا

وبعده شيء من القرنفل.. وزنجبيل صالح وفلفل

وكف كمون وشيء من مري.. وملء كفين بملح تدمر

فدقه يا سيدي شديدا.. ثم أوقد النار له وقودا

وقد أورد محمد الكاتب البغدادي  الذي أرّخ  للطبيخ زمن العباسيين خلال القرنين 6 و7 هـ/ 12 و 13م نفس الطريقة التي أوردها الموصلي في أبياته السابقة، غير أنه أشار في مقابل ذلك إلى أن المحشو بالسّكر واللوز المدقوق الناعم الممزوج بماء الورد والذي يُوضَع في الجلاب( العسل الممزوج بماء الورد)، وذلك بعد قليه، إنما يسمى المكلل أو المرشوقة، كما تسمى اليوم  عند الرباطيين، وليس « سنبوسك »، وهي الطريقة التي أوردها بن العديم الذي أرّخ لطبخ المشرق في تلك الفترة (أي أواخر القرن 12 وبداية القرن 13) في كتابه « الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات الطيب »، حيث أورد أن رقاق « السنبوسك » يتم حشوها بالسكر المدقوق وماء الورد، ويقلى ويغطس في العسل، بعد أن يُحمّر ليذر عليه بعد ذلك فستق محمص مهروس، وقد اعتبر بن عديم، أن جودة « السنبوسك » تكمن في طريقة لفّه.

« السنبوسك » أو « البريوات » في المغرب

المحشو باللحم طبق الشعب والمحشو باللوز طبق  الملوك..

أولى الإشارات التي وردت عن « السنبوسك » المحشو باللحم  في بلاد المغرب، هي الإشارة التي وردت  في ترجمة ابي عبد الله بن محمد بن أبي حميد المتوفي سنة 338هـ 950م، في سياق ضيافة بطرابلس فقال: « كنت أشتهي الساعة أن آكل معك لحما مطبوخا بلفت وبعده سنبوسقا، قال الرجل: فلما استتم الكلام حتى سمعنا قرع الباب.. فإذا بخادمة.. قالت: يا سيدي، سيدي يقرأ عليك السلام ويقول لك: هذا الشيء عملناه لك فلم يتم إلا الآن، فأقبله، قال الرجل: فإذا هو والله لحم مطبوخ وسنبوسق ».

وهو بخلاف الشائع عند الكثير من الباحثين من كون الرحالة بن بطوطة الطنجي كان سبب دخول هذه الأكلة إلى المغرب، وذلك بالنظر إلى أن بن بطوطة عاش خلا القرن 8هـ 14م.

وقد صنّف مؤرخو الطّبيخ بالمغرب والأندلس هذا النوع من « السنبوسك » أو « البريوات » المحشو باللحم  من طعام العامة، كما ورد عند صاحب كتاب « أنواع الصيدلة في ألوان الأطعمة » الذي أرّخ للطبيخ زمن الموحدين، بل إن التيجيبي الذي أرّخ لنفس المرحلة التاريخية أي القرن 6 و7هـ/ 12 و 13م، قد وصف هذا الطعام في  كتابه « فضالة الخوان وطيبات الطعام »،  بالطعام غير المستحسن ولا المستطاب، واختص به أهل إفريقية (تونس الحالية)، وقد كان التيجببي يقدم لنا معلومة تاريخية مهمة بشأن هذا الطعام، حين اعتبر « السنبوسك » أو « البريوات » المحشوة باللحم طعام أهل إفريقية (تونس)، دون غيرها من أقطار المغرب الكبير.

 فهل كان يقصد أن شيوعه بين الناس في إفريقية (تونس) كان قبل شيوعه بين الناس في المغرب، خصوصا أن صاحب كتاب « أنواع الصيدلة » وهو كاتب مجهول من الزمن الموحدي، قد أشار إليه باعتباره طعاما للعامة كما تمت الإشارة إلى ذلك أعلاه.

 في مقابل ذلك اعتبر نفس الكاتب، أن  « السنبوسك » أو « البريوات » المحشوة باللوز طعام الخاصة، حيث أشار إلى أنه كان يُصنَعُ بمراكش بدار أمير المؤمنين أبى يوسف المنصور، ويقصد بذلك يعقوب المنصور الموحدي.

 وبالتالي فهو طعام الخاصة بامتياز، وعلى رأس هؤلاء خليفة بحجم يعقوب المنصور الموحدي، بل إن التيجببي يذهب أبعد من ذلك، حين يعتبر أن « السنبوسك » المعمول بالسكر واللوز وماء الورد وما يُضاف له من توابل هو « السنبوسك » حقيقة وليس ذلك المحشو باللحم.

وقد يتساءل القارئ ما الذي يجعل « السنبوسك » أو بريوات اللوز والسكر بالتوابل المقلية في العسل  طعام الخاصة، في حين أن « بريوات » أو « سنبوسك » اللحم طعام العامة ؟؟

 الجواب هو أن « البريوات » المعمولة بالسكر والتوابل أغلى ليس بمقاييس ذلك الزمان الذي كان يعتبر فيه السكر أحد مواد التطبيب والعلاج،  بل بمقاييس هذا العصر كذلك، إضافة إلى تعدد التوابل التي تُضاف إلى الخلطة  والتي عدّدها صاحب كتاب « أنواع الصيدلة » في المصطكي (المسكة الحرة)  والقرنفل وزنجبيل وهي توابل كانت تُستورَد من الشرق الأقصى، ناهيك عن اللوز وماء الورد وغيرهما، وإن كانت التوابل  تدخل حتى في حشوة « السنبوسك » أو البريوات المحشوة باللحم، لكن صاحب الكتاب أشار اليها يإطلاق دون أن يعدّدها.

  إعداد « السنبوسك » أو « البريوات » كما وردت عند المؤرخي

أ- كتاب فضالة الخوان

         يُؤخذ قدر الكفاية من السكر، ويُحل بماء الورد، ويُضاف إليه لوز مدروس كالعجين، ويُحك برفق على نار لينة حتى يلتف ويصير مثل حشو القاهرية، ثم يُترك على النار، ويُضاف إليه لوز مقشور مهشم وسنبل وقرنفل ويُسير مصطكي وزنجبيل.

بعدها تحل هذه العقاقير مسحوقة في ماء ورد قد حل فيه كافور ومسك، ويُعجن الجميع حتى يمتزج ويلتحم، ويُعمل من أقراص غليظة كروية الشكل على قدر الكف، وهذا هو « السنبوسك » حقيقة، والذي يصنعه أهل إفريقية محشوا باللحم فليس بمستحسن ولا مستطاب.

ب- كتاب أنواع الصيدلة في ألوان الأطعمة

   سنبوسك العامة:

    يُعمل على ثلاثة أنواع: الأول أن تُحشى الرقائق بالثوم والتوابل، وتُلف شكلا مثلثا وتُقلى في الزيت، ومنه ما يُعمل بالعجين مخلوطا مضروبا باللحم المدقوق والتوابل والبيض، ويُعمل منه شكل الفرتلات وتُقلى وتُقدم، ومنه ما يُعمل بالعجين المعجون بالسمن، أو الشحم المذاب، ويُعمل منه الفرتلات ولا تُقلى، بل يُترك نيّا، وهذا يصلح أن يُقلى في الإسفيدجانات والمحشوات.

المراجع:

1- الإمام  أبي الحسن بن علي المسعودي: مروج الدهب  ومعادن الجوهر
2- السمبوسة في كتب التراث
3- كاتب مجهول: أنواع الصيدلة في ألوان الأطعمة ..الطبيخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدي
4- بن رزين التيجبي: فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان.. صور من فن الطبخ في الأندلس والمغرب في  بداية العصر بني مرين
5- محمد بن الحسن الكاتب البغدادي: كتاب الطبيخ ومعجم المآكل الدمشقية
6- سهام الدبابي الميساوي: مائدة إفريقية.. دراسة في ألوان الطعام
7-  بن بطوطة: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي