عبد الرحيم برادة

22 يوليو 2018 - 11:28

هو الآن يعيش عامه الثمانين. لا شيء تغير فيه، لولا أن شجرة الكاوتشوك الضخمة بحديقة بيته المقابل لكنيسة نوتردام دو لورد بالدار البيضاء، تشغله قليلا. فقد قفزت بأغصانها فوق السور مثل مراهقة ضاقت ذرعا بحكمة أبيها الصموت. وهو يتفرسها ويتلمس فراشة الحرية المثبتة أسفل ياقة قميصه، وقلما يتعقبها بين الشوارع.

في المرات القليلة التي أتيحت لي فرصة الجلوس إليه، وجدتني أمام طينة نادرة من الرجال: ليبرالي بزهد. آنف بتواضع. بواح بصمت. حكيم بمرح. متطرف في علمانيته التي تعتبر أن أصولية الدولة سابقة على أصولية الإسلاميين ولاحقة عليها. مبدئي بقسوة؛ فعندما اتصل به إدريس البصري، ليلة ترحيل أبراهام السرفاتي إلى فرنسا، يطلب منه اللقاء به في مكتبه بوزارة الداخلية على الساعة السابعة صباحا، لم يكن يتوقع أن يصدمه بصرامة: «ما أعرفه هو أن الإدارة تبدأ عملها على الساعة الثامنة وليس السابعة صباحا، وأنا لن أحضر هذا الاجتماع لأنه كان عليك أن تخبرني بمدة معقولة حتى أبرمج هذا الموعد إلى جانب باقي مواعيدي».

عندما كان عبد الرحيم برادة شابا يدرس بكلية الحقوق التابعة لجامعة باريس، بداية الستينيات، زارهم إدغار فور، رئيس وزراء فرنسا خلال اتفاقية إيكس ليبان، لإلقاء محاضرة حول الصين. لم يخطر ببال الطالب المغربي أن هذا الغول السياسي، الذي انتهى محاميا، سيصبح زميلا له يرافع إلى جانبه في المحاكم الفرنسية. حين انتهى إدغار فور من إلقاء محاضرته، رفع طالب فرنسي أصبعه وسأل بلا مقدمة ولا سياق: «لماذا دعمت حكومتك، خلال اتفاقية إيكس ليبان، عودة الملكية الرجعية إلى المغرب؟». نظر فور إلى الطالب، وأجاب: «أنا كنت أتحدث عن الصين، لكن بما أن سؤالك الخارج عن السياق مستفز، فلن أتركه يمر دون أن أجيبك: الدولة الفرنسية، وضمنها حكومتي، لم تدافع عن عودة الملكية إلى المغرب. لقد حاولنا جاهدين إقامة نظام جمهوري بهذا البلد، لكن ممثلي الحركة الوطنية المغربية في مفاوضات الاستقلال تشبثوا بالملكية».

في 1966، سيعود عبد الرحيم إلى المغرب، مشبعا بقيم الحرية والعدالة. كان الحسن الثاني ومستشاره القوي، أحمد رضا اكديرة، يعتنقان ليبرالية مهجنة بالتقاليد المخزنية، مشذبة من أي معنى حقوقي أو تعددي حقيقي. وكانت أغلب النخب الاقتصادية والتقنوقراطية تهرول للدخول تحت مظلة هذه الإيديولوجيا الرسمية تحصينا لمواقعها، وبحثا عن مكاسب وامتيازات أخرى. في هذه الأجواء، قرر عبد الرحيم برادة أن يكون صديقا لاشتراكيي وشيوعيي المعارضة، الذين دافعوا عن الملكية، بدل أن يكون محسوبا على ليبرالية أقصت الأحزاب الوطنية.

كان عبد الرحيم بوعبيد معجبا بذكاء وجدية عبد الرحيم برادة، وتوطدت العلاقة بينهما خلال محاكمة مراكش 1971، حين أهمل كلاهما مكتبيهما بالرباط والدار البيضاء، واكتريا إقامة في مراكش للتفرغ للمحاكمة الكبرى التي واكبتها شخصيات سياسية من طينة فرانسوا ميتران وميشال روكار. سنة بعد هذه المحاكمة، سوف يفاتح الحسن الثاني صديقه اللدود عبد الرحيم بوعبيد في أمر تشكيل حكومة تقودها الكتلة الوطنية. ورغم أن الاتحاد كان يضم الكثير من الحقوقيين، فقد اقترح بوعبيد على عبد الرحيم برادة أن يكون وزيرا للعدل، لكن هذا الأخير رفض ذلك، قبل أن يتراجع الملك عن نزوة اقتسام الحكم مع الحركة الوطنية.

لم يكن بوعبيد وحده من أعجب بهذا المحامي الليبرالي، فحتى عمر بنجلون كان يجد متعة في أفكاره العميقة والخارجة قليلا عن المتفق عليه داخل اليسار، وليلة استشهاده سهر عمر في بيته بالدار البيضاء إلى آخر ساعة.

لم يتورع الحسن الثاني في الاعتراف لعبد الرحيم بوعبيد بكرهه لعبد الرحيم برادة ووصفه بخائن الوطن، خصوصا بعدما دافع برادة بقوة عن رفاق أبراهام السرفاتي. وقد وصل حنق الملك على المحامي أن منعه من جواز السفر لقرابة 15 سنة، مع علمه المسبق بأنه متزوج بسيدة فرنسية. وحدث في نهاية حوار أجرته «ليبيراسيون» الفرنسية مع الحسن الثاني، أن سأله الصحافي، سيرج جيلي، عن أسباب حرمان المحامي عبد الرحيم برادة من جواز سفره، فحدجه الملك بنظرة شزراء، وقال: «لو علمت أنك ستطرح علي سؤالا كهذا ما وافقت على محاورتك إياي».

وأنا أحاول أن أتلمس ملامح عبد الرحيم برادة الدقيقة والمتشعبة، خطر ببالي أن أقصى ما كان الحكيم كونفوشيوس يتمناه هو أن يوهب قدرة وضع كل كلمة في مكانها، وأتساءل بأي الأدوات أرسم وجه رجل رافع أمام كبرى المحاكم في كبرى القضايا، ومازال يعيش ويشتغل في منزل كراء يتخذه مكتبا أيضا؟

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي