من يسد الطريق على الحوار يفتح الطريق على الفوضى

03 أكتوبر 2025 - 20:30

ذ. سليمان الزوير

الاحتجاج ليس طارئاً على الحياة السياسية ولا ظاهرة تخص بلداً بعينه. إنه جزء من تاريخ البشرية منذ أن وُجدت السلطة التي تفرض قراراتها، وُجد في المقابل من يرفض ويحتج ويطالب بالتغيير. لكن السؤال الجوهري الذي يواجه المجتمعات الحديثة اليوم ليس في وجود الاحتجاج من عدمه، بل في كيفية إدارة السلطة لهذه الاحتجاجات.

الاحتجاج في أصله تعبير سلمي مشروع عن مطالب اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية. غير أن التاريخ والواقع المعاصر يبرزان أن هذا الفعل السلمي قد يتحول بسرعة إلى انفلات وفوضى، إذا ما أغلقت السلطة قنوات الحوار واستبدلت لغة التفاهم بلغة الهراوات والقمع والأحذية الثقيلة. هذا التحول لا يحتاج إلى مؤامرات خارجية أو أيادٍ خفية كما يروج في بعض الخطابات الرسمية، بل هو نتيجة طبيعية لمسار اجتماعي-نفسي يمكن ملاحظته وتفسيره في مختلف الدول والمجتمعات.

القمع كوقود للغضب.

حين تواجه الدولة المطالب الشعبية بالمنع والتطويق والقمع، فإنها لا تُضعف الحركة الاحتجاجية كما تعتقد، بل تدفعها إلى التصلب والانفجار. وفقاً لسيكولوجية الجماهير كما وصفها غوستاف لوبون، الفرد عندما يندمج في حشد يشعر بقوة جديدة ويتحرر من الكثير من القيود العقلانية، مما يجعله أكثر قابلية للعنف والانفلات. هذه الحقيقة تفسر لماذا يتحول غضب بسيط إلى عاصفة لا يمكن السيطرة عليها بمجرد أن يُقمع المحتجون وتُسفَّه مطالبهم.

تجربة « السترات الصفراء » في فرنسا مثال واضح: بدأت الحركة سنة 2018 احتجاجاً على ارتفاع أسعار الوقود، لكنها تحولت بسرعة إلى مواجهات عنيفة مع الشرطة وتخريب واسع للممتلكات العامة والخاصة. لم يكن السبب أن الفرنسيين « شعب فوضوي »، بل لأن السلطة تجاهلت المطالب في البداية، ثم واجهتها بالقمع المفرط. هنا يتحول الغضب من مطلب اقتصادي إلى تمرد على السلطة كلها.

ميكانيزمات الحشد تحت الضغط

الحشد الجماهيري ليس مجرد جمع حسابي لأفراد، بل هو كيان نفسي جديد. العاطفة فيه تتضخم، والعقل يتقلص. لهذا يصبح الحشد أكثر حساسية لأي استفزاز، وأكثر ميلاً إلى ردود الفعل السريعة. عندما تُحاصر مسيرة سلمية بتطويق أمني خانق، يُفسّر ذلك من طرف المشاركين كإهانة، فيرتفع منسوب التوتر. وعندها يكفي احتكاك صغير أو حركة استفزازية لتندلع المواجهة، ويتحول الميدان إلى مسرح للعنف.

لقد عاشت هونغ كونغ سنة 2019 تجربة مشابهة: بدأ الاحتجاج ضد قانون تسليم المطلوبين للصين، لكن إصرار السلطة على العناد واستخدام القوة حوّل المدينة إلى ساحة معارك. في تشيلي، كانت زيادة بسيطة في أسعار تذاكر المترو كافية لإشعال احتجاجات عمّت البلد، ليس بسبب قيمة الزيادة، بل بسبب الإحساس بالإهانة وانسداد الأفق.

المغرب بين القمع وخطاب « الأيادي الخارجية »

في المغرب، كلما خرجت موجة احتجاجية، يعود الخطاب الرسمي أو شبه الرسمي ليكرر نفس الأسطوانة: « هناك جهات خارجية تحرك الشارع ». لكن التجارب الملموسة تكشف عكس ذلك. فحراك الريف سنة 2016–2017 لم ينطلق من مؤامرة أجنبية، بل من مطالب اجتماعية محلية: مستشفى، جامعة، فرص عمل. وكذلك احتجاجات جرادة 2018 جاءت بعد وفاة عمال في آبار الفحم. وحتى حركة 20 فبراير 2011 كانت امتداداً لموجة الربيع العربي.

المشترك في كل هذه الحالات أن السلطة اختارت الخيار الأمني: الاعتقالات، المحاكمات، التشهير الإعلامي، بدل فتح قنوات الحوار الجدي. النتيجة كانت دائماً واحدة: ارتفاع منسوب الغضب، توسع دائرة التضامن الشعبي، وزيادة فقدان الثقة في الخطاب الرسمي.

لماذا يصر الخطاب الرسمي على ترويج خطاب « المؤامرة الخارجية »؟

الجواب بسيط: إنه نوع من الهروب إلى الأمام. فحين تُعزى أسباب الاحتجاج إلى الخارج، تُنقل المسؤولية من الفاعلين الداخليين (الحكومة، السياسات العمومية، الفساد) إلى عامل غامض لا يمكن محاسبته. لكن المواطن الذي يعاني يومياً من البطالة وغلاء الأسعار وانسداد الأفق السياسي لا يقتنع بهذه التبريرات. على العكس، تزيده شعوراً بالمهانة، وكأن مشاكله ليست حقيقية بل مجرد وهم صنعه « الآخر ».

النتائج المتكررة عبر التجارب

إذا تأملنا مختلف السياقات الدولية، من الديمقراطيات الغربية إلى الأنظمة السلطوية، نجد قاعدة سوسيولوجية واضحة.
1. القمع يولّد التضامن الجماعي: حين يُقمع محتج واحد، يتوحد باقي المحتجين حوله.
2. انسداد الحوار يضاعف العنف: كلما غابت مؤسسات الوساطة، لجأ الشارع إلى لغة الفوضى.
3. الغضب المكبوت يتحول إلى تدمير: إذا لم يُصرف في إصلاحات، اتجه إلى كسر الممتلكات وحرق الشوارع.
4. التبرير الخارجي ينسف الثقة: المواطن لا يصدق أن « الخارج » وراء أزمته وهو يعيشها يومياً.

نحو مقاربة مختلفة

الاحتجاج في المغرب وغيره ليس ظاهرة عرضية، بل تعبير عن أزمة ثقة بين المواطن والدولة. والسبيل إلى معالجة الأزمة ليس في المزيد من القمع ولا في المزيد من التخويف من « المؤامرات »، بل في فتح أبواب الحوار الحقيقي، وتقديم إجابات ملموسة على الأسئلة الاجتماعية والاقتصادية.
فمن يسد الطريق على الحوار يفتح الطريق على الفوضى، ومن يغلق أذنيه عن مطالب الشارع يفتح باب المجهول. إنها قاعدة اجتماعية لا تتغير: الجماهير حين لا تجد من يصغي إليها تتحول من قوة تغيير سلمية إلى قوة انفجار مدمرة.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *